رسالة الى الفرنسيين من المستقبل

نشر بتاريخ

لعله يبدو ، و لأول وهلة ، ان من اهم الدروس الأولية التي يمكن استخلاصها من جائحة ” كورونا ” هو ملاحظة بداية انحسار الطغيان الجارف للنزعة الفردية الذي انتجته الليبرالية المتوحشة التي طبقها الرئيس الأمريكي ” ريغان ” و رئيسة الحكومة البريطانية ” تاتشر ” التي اعتنقت فلسفة تنهض على ضرورة خلق تنافسية مطلقة و حادة في السوق بقصد توفير تراكم واسع للمال، مهما كانت وسائله ، بهدف السيطرة الماحقة على المجتمع ، فتفشت روح فردية لا تعتبر وجود الجماعة ، غير أن وباء ” كورونا ” ساهم ، و على ما يبدو الى حد كبير ، في إعادة الاعتبار للمجتمع ، و ظهر بالتالي جليا أن الفرد لا يمكنه الانتصار على الوباء عبر لبس طوق نجاة بمفرده في معزل عن المجتمع ، الامر الذي أحيا ، بكيفية او أخرى ، فكرة ” كامو” في روايته الشهيرة ” الطاعون”، و هي أن النضال المشترك هو الذي يجعل المجتمع ممكنا ، بل و لربما حتى ذي معنى وجودي .

في ظل الخلاصات المومأ اليها تطل رسالة الكاتبة الإيطالية ” فرانسسكا ميلاندري ” التي كتبت سيناريوات لعدة أفلام و رواية حازت على جائزة ادبيتين ايطاليتين هامتين ، التي نشرتها جريدة ” ليبراسيون ” الفرنسية في عدد البارحة.

لقد ارتأيت ترجمتها الى العربية نظرا ، من جهة ، لمغزاها العميق ، ومن جهة أخرى ، لحمولتها الثرية بالتجربة المريرة التي عاشتها الكاتبة معية الشعب الإيطالي ، و لا تزال ، مشبعة بمعاناة يومية بسبب الحجر الصحي المفروض ، و من ثم تبرز راهنيتها في ملامسة وضعنا الحالي المشابه لنفس الأوضاع التي عاشتها الكاتبة و كانت محل سرد واقعي ملئ بالعبر ، قاصدا من وراء ذلك حث الجميع على السمو بروح المواطنة و التقيد بما تفرضه السلطات المعنية من تدابير و إجراءات لتجاوز و الحد من أثار وخيمة للوباء تظهر جلية في الأفق ، مادام أننا جميعا ، معنيين بمضامين الرسالة .

لذلك ، قمت بالترجمة التالية للرسالة المومأ اليها ، راجيا أن تكون موفقة ، مع التماس المعذرة للأخطاء و ما قد تكون هناك من شوائب محتملة .




اكاتبكم من إيطاليا ، و اذن من مستقبلكم ، نحن الآن هنا أي اين ستكونون خلال بضعة أيام . تبين لنا منحنيات تطور الوباء اننا ملتئمون ، محرجون في رقصة موازية نوجد فيها على بعد خطوات قبلكم على خط الزمان ، مثلما كانت “ووهان” بالنسبة الينا منذ بضعة أسابيع ، و نرى انكم تتصرفون مثلما كنا نفعل . لديكم نفس النقاشات لتلك المواضيع التي كنا نخوض فيها منذ وقت وجيز، بين أولائك الذين لا زالوا يعلنون ” كل هذه الروايات هي أزيد قليلا من زكام ” وبين الذين ” فهموا الامر ( الواقع ) ”!!.

من هنا ، من مستقبلكم ، نعلم ، مثلا أنه حينما يطلبون منكم المكوث في الحجر بمنازلكم فإن البعض سيستحضر ” فوكو ” ثم “هوبز” غير أنه سيكون لكم و بصفة مبكرة أمرا آخرا لإنجازه . قبل كل شيء ستتناولون مأكولات و ليس فقط لأن الطبخ هو من الأمور النادرة التي يمكنكم القيام بها . ستتناسل عبر المواقع الاجتماعية مجموعات لتقديم اقتراحات بخصوص كيفية تصريف الوقت على نحو نافع و بناء ، و ستكتبون فيها جميعا ، غير انه لن يمكنكم بعد مرور بضعة أيام الاستمرار في ذلك ، ستخرجون من مدرجاتكم ” الطاعون ” لكامو ، غير أنكم ستكتشفون انعدام رغبة حقيقية لقراءته.

ستأكلون من جديد ، و ستنامون بكيفية سيئة .

ستتساءلون عن المستقبل و عن الديمقراطية ، ستكون لكم حياة اجتماعية لا تقاوم ، تقضونها بين تناول الانخاب على “الشات” و تناول العشاء على ” سكايب “.

سيغيب عنكم ، مثلما لو كان للأبد، أبناؤكم البالغين و ستفكرون انه و لأول مرة منذ مغادرتهم المنزل لن تتوفروا على تصور حول موعد لقياهم مجددا.

ستشعرون بعدم أهمية خلافات قديمة كانت لكم مع اشخاص تكرهونهم كما ستهاتفون لمعرفة أخبار اشخاص أقسمتم على عدم رؤيتهم.

العديد من النساء سيتعرضن للضرب في منازلهن.

ستتساءلون حول أوضاع هؤلاء الذين لا يمكنهم البقاء في المنزل لأنهم لا يتوفرون عليه.

ستحسون بضعفكم عندما تخرجون لقضاء حاجياتكم في شوارع مقفرة سيما إذا كنتم امرأة.

ستتساءلون هل تدمر المجتمعات هكذا ، و بهذه السرعة ، و ستمتنعون عن أن تكون لديكم مثل هذه الأسئلة.

ستدخلون لمنازلكم و تأكلون و يرتفع وزنكم .

ستبحثون في الانترنيت عن فيدوات الفتنس.

ستضحكون ، ستضحكون كثيرا ، و ستتفوهون بدعابات ساخرة سوداء تشنق الانفاس.

و حتى بالنسبة لهؤلاء الأشخاص الذين يأخذون الأمور دوما بجدية سيصل وعيهم الى نتيجة مفادها ان الحياة عبث.

ستضربون مواعيد في الصفوف المنظمة خارج المتاجر قصد لقاء شخصي مع الأصدقاء ، تراعون فيه مسافة الأمان.

و سيبدو لكم واضحا أنه لا حاجة لك لكل شيء.

ستكتشفون ، و ببداهة مطلقة ، الطبيعة الحقيقية للأشخاص المحيطون بكم : ستكون لكم تأكيدات بقدر مفاجئات.

سيختفي مثقفون كبار أولائك الذين كانوا حتى غاية البارحة يتدخلون في كل شيء ، فلن يكون لديهم بعد الآن ادنى كلمة ، و سيختفون من ساحة منابر الإعلام ، و البعض منهم سيلجئون الى تجريدات عامة و ذكية خالية من كل نفس و تعاطف.

و بعض الأشخاص الذين لم تكن تمنح لهم أي اعتبار سيظهرون لكم ، على العكس ، برغماتيين ، يبعثون الاطمئنان ، أقوياء مستنيرون و كرماء.

هؤلاء الذين يدعون الى اعتبار أن كل هذا هو مناسبة لنهضة المعمور ، سيساعدونكم على توسيع الأفق ، لكنهم سيزعجونكم بكيفية رهيبة ، كذلك : ان الكوكب يتنفس بسبب نقصان نفت الغازات ، لكنكم كيف ستتمكنون من تسديد فياتير الغاز و الكهرباء في نهاية الشهر؟ لن يمكنكم فهم ما اذا كانت مشاهدة ميلاد عالم الغد هو امر عظيم أو بئيس .

ستنشدون الموسيقى في الشرفات ، و حينما ستشاهدون مقاطع الفيديو التي انشدنا فيها أغاني “الاوبرا ” نعلم انكم ستغنون أيضا ” لا مارسييز ” ” la marseillaise ” و عندما ستقومون انتم أيضا بإطلاق النوافذ على أنبوب كامل Will Surival ” سنراقبكم في هذه الاثناء ، مثلما كان عليه الحال في ” ووهان ” التي كانوا يغنون فيها في فبراير ، ناظرين الينا.

الكثير سينامون وهم يفكرون في أن أول ما سيفعلونه بمجرد خروجهم هو الطلاق . فالعديد من الأطفال سيتم تصورهم .

ابناؤكم سيتابعون دراستهم عن بعد ، و سيكونون غير محتملين ، و سيمنحونكم الفرح.

لن يطيعكم احفادكم مثل المراهقين: ستجبرون على الشجار معهم لتفادي ذهابهم الى الخارج ، التقاط الفيروس ، و الموت.

ستحاولون عدم التفكير في هؤلاء الذين يموتون وحيدين في المستشفيات .

سيخبرونكم بدرجة تماسك المجتمع موحدا في مجهود مشترك ، و انكم توجدون في نفس السفينة . سيكون صحيحا ، هذه التجربة ستغير بكيفية نهائية نظرتكم للأفراد ، لكن الانتماء الطبقي سيقيم مع ذلك فارقا شاسعا ، ليس نفس الامر الإقامة مقفلا في منزل يتوفر على شرفة و حديقة او في عمارة شعبية مكتظة ؟ .

و كذلك ليس نفس الامر بالنسبة للاشتغال المنزلي و بين فقدان العمل. هذه السفينة التي ستتواجدون فيها لهزيمة الوباء لن تكون ذاتها واحدة للجميع ، لأنها ليست كذلك و لن تكون.

و في وقت معين ستدركون أنه أمر قاسي .

ستصابون بالخوف، ستتكلمون مع الأعزاء من معارفكم او ستحتفظون بالقلق في باطنكم حتى لا يصابون هم أيضا به، و ستأكلون من جديد.

هذا ما يمكن لي أن أقوله لكم عن إيطاليا بخصوص مستقبلكم.

لكنها نبوءة من السواحل الصغيرة و الصغيرة لبضعة أيام فقط .

اذا نظرنا الى المستقبل البعيد المجهول ، لكم و لنا ، عندها لن يمكننا اخباركم سوى بأمر واحد : عندما ينتهي كل شيء لن يكون العالم مثلما كان.

عبد اللطيف مشبال
← الرجوع إلى جميع المقالات