صحيفة "الواشنطن بوست" استماتة في الكشف عن خبايا جريمة قتل الصحفي الخاشقجي

نشر بتاريخ

تكشف الجريمة النكراء التي تعرض لها الصحفي الخاشقجي التي اضطرت السعودية الي الاعتراف بضلوعها في ارتكابهامتذرعة برواية لا يقبلها عقل اجيال ثورة المعلومات الرقمية، ولا اي مواطن عاقل، عن مسالة بديهية مفادها ان التقدم الإنساني لا يمكن ان يتم دون قاعدة فكرية تؤمن بقيم الحداثة والعلم واحترام حقوق الانسان وفِي مقدمتها حرية التعبير ، اذ لا يكفي التوفر علي ارصدة مالية ضخمة ممتزجة بعقلية متخلفة.

كما تكشف الجريمة عن مدي جهل مرتكبي الجريمة والآمر بها عن دور الصحافة كركن أساسي لا محيد عنه في تأمين حرية التعبير ، حتي أضحت جوهر الحريات، بالنظر لدورها الطليعي في التوعية بالحقوق ، وتمكين المواطنين من المعلومات الصادقة التي تهم شانهم، وتنير الحاكمين سبل الرؤيا الواضحة لتفادي الانحراف ، والفساد، فهي سلطة رابعة حقيقية لمراقبة باقي السلطات .

ينضاف هذا ” الإنجاز” الجديد للنظام السعودي الي سلسلة إنجازاته ” الباهرة” كاحتجازه رئيس حكومة وإرغامه علي تقديم استقالته من مهامه الدستورية بخطاب متلفز شهير، اضحي من ادبيات السياسة الدولية(!)حتي تدخل الرئيس الفرنسي لانقاذه، وليس اي مسؤول عربي، بما فيه من دلالات ، مرورا بالحرب الهمجية علي اليمن، دون إذن من المجتمع الدولي ،وفرض حصار علي دولة شقيقة،في انتهاك صارخ للمواثيق الدولية،واعتقال العديد من الشخصيات السعودية ، وتلفيق كل التهم اليهم دون سند قانوني،،

الأدهي ان ضحية الجريمة الشهيد القاشعجي لم يكن جنرالا او متآمرا ضد النظام السعودي، وإنما كاتبا وصحفيا مرموقا، الذي يجب التضامن مع قضيته، مهما كانت نزعاته السياسية، اختار الانسلاخ من الجوقة الإعلامية السعودية، بعد ان تيقن من فشل سياسات النظام، وعقم توجهاته،للتعبير عن آرائه بكل حرية في الولايات المتحدة الامريكية، ليستنشق نسيم الحرية، والاستمتاع بثمراتها.

ومن هذا المنطلق اختار الكتابة في صحيفة “واشنطن بوست” المرموقة في عمود منتظم ، انتقد فيها سياسات حكومة بلاده، سيما حرب اليمن، متخليا عن مؤازرته لها بعد ان تبين له ، ولا شك، بطولات الشعب اليمني ، واصراره علي إلحاق الهزيمة بالمعتدي، وايضاً فداحة الآثار التدميرية الهائلة التي يتسبب فيها العدوان السعودي، لدرجة ان تقييما حديثا للأمم المتحدة افاد ان ان العدوان يتسبب في كارثة إنسانية مفجعة، نتيجة موت الملايين من اليمنيين ونتيجة تجويعهم، حتي يتحقق بالتالي إنجاز “باهر ” آخر يتمثل في تحقيق اكبر مجاعة بشرية عرفها العالم في مائة عام.

كما ان المرحوم انتقد حصار قطر، لانعدام مبرراته، فيما عدا ما سربته بعض الصحف من ان وراءه يوجد خلاف بين كوشنر صهر الرئيس ترامب وحكام قطر علي بعض الصفقات العقارية التجارية الضخمة في نيويورك!

ولربما كان هناك دافع آخر يتجلي في معرفته الدقيقة بأكثر ما يجب معرفته بخصوص الفساد والسياسة الداخلية،، مثلما جاء في جريدة the mail on line بتاريخ 17 من الشهر الجاري.

ويبدو ان المستهدف هو ايضاحرية الصحافة بامريكا ، اذ لا يخفي الوزن الاعتباري لصحيفة ” واشنطن بوست” ودورها الكبير المشهود به في الإطاحة بالرئيس نيكسون، والكشف عن اسرار المخابرات الامريكية ووكالة الأمن القومي ، في عهد الرئيس اوباما، واستعمالها برنامج مركز علي الخوادم المركزية لموقع غوغل،ياهو، وفسبوك،، لمراقبة أنشطة المواطنين غير الأمريكيين،،وتاريخها الحافل في الدفاع عن حقوق الانسان ، وحقوق الأقليات، ،ومن ثم فان الصحيفة احتضنت قضية القاشعجي بقوة، فجعلتها قضية الساعة علي الرغم من محاولات إسكاتها، وأسهمت بكيفية ملموسة في تحسيس المواطن الامريكي بخطورة الجريمة التي تعرض لها، وفِي كسر جدار الصمت الذي حاولت الادارة الامريكية الركون اليه وفرضه، والإلحاح مع الاثبات ان الاخيرة علي علم بكل تفاصيل الجريمة ومرتكبيها والآمرين بها، الي ان تنجلي الحقيقة ومعاقبة المتورطين بعد اجراء تحقيق دولي علي غرار ما حدث في قضية “لوكربي” الامر الذي دفع بأعضاء بارزين في الكونغرس الامريكي من الحزبين الي المطالبة باتخاذ عقوبات ضد السعودية ، في انتظار الكشف عن الحقيقة، اما م تناقض مواقف الاخيرة ورفضها التعاون في هذا السبيل بكيفية إيجابية مع الجانب التركي، مما يعد تسترا مفضوحًا علي الجريمة ومرتكبيها.

واعتقد جازما ان هذا الوقوف النبيل والشجاع من الصحيفة المذكورة سيثمر في النهاية بالنتائج المرجوة في الكشف عن الحقيقة ومعاقبة مرتكبي الفعل، مثلما كان عليه الامر في مختلف معارك الدفاع عن الحق التي خاضتها،،وكما قال الرئيس اردوغان بحق “ان لناظره لقريب.”

ان لحرية الصحافة في الولايات المتحدة الامريكية تاريخ طويل، ليس مجال هذا المقال ، بيد انه من المناسب الاشارة الي واقعة هامة قد تفيد في ازاحة بعد الظلال، فقد سبق للرئيس الامريكي جيفرسون ان حسم الامر في هذا الشأن في كتاب وجهه الي صديقه ادواركارينجتون سنة 1787 جاء فيه”ان كان القرار يرجع لي في الاختيار بين حكومة بلا صحافة او في صحافة بلا حكومة ، فلن أتردد ، وساختار صحافة بلا حكومة”وتم إقرار التعديل الاول للدستور الامريكي لاقرار حرية الصحافة بشكل واضح.

لكن يبدو ان النظام السعودي ، والعديد من الأنظمة العربية، تسير عكس هذه المقولة،ومن ثم فإنها تناهض تأسيس صحف حرة، او احزاب، او حرية التعبير،،وتدل جريمة قتل الخاشقجي انها تعتبر التعبير عن الراي المعارض جريمة نكراء تستحق تصفية مرتكبها، للإبقاء علي اوضاع راكدة ، وممارسات مشينة يأباها روح العصر.

مع انه اضحي واضح للعيان انه لا يمكن قيام حكومة جيدة دون ان يبني النظام المستنير علي ركنين أساسيين هما الشفافية والمحاسبة ، وهو ما ينص عليه الفصل الاول من الدستور، الامر الذي يستوجب وجود صحافة حرة ، ذات مصداقية ومهنية .وتثبت احداث التاريخ القريب ان الدول التي تتمتع بصحافة حرة هي التي تمكنت من الفوز في الصراع الحضاري، فأضحت الولايات المتحدة بفضل ذلك الرقم الاول في العالم عسكريا،وتتوفر علي اكثر من 24‎%‎ من اجمالي الاقتصاد العالمي،كما تتوفر علي 16 جامعة من بين 20 جامعة المصنفة الاولي عالميا، وعلي 366 عالم أمريكي ينتمي الي مؤسسة جامعية او بحثية أمريكية.

وغني عن البيان ان الاعلام وحريته من مظاهر الحضارة والتقدم المجتمعي، ويودي انعدامه الي اندثار الراي العام المؤثر، وانزواءه في مجاله الضيق، وتشويه القيم الانسانية، والحقيقة وهو ما تعاني منه السعودية للأسف رغم أرصدتها المالية التي لا تنقطع عن النضوب لتحمي نفسها!

ختاما ، يمكن القول ،ان جسد المرحوم غاب عن الحياة بكيفية غادرة،لكنه ظل حاضرا كما تدل علي ذلك مجريات الامور.

هذا الغياب أدي الي خلخلة الأوضاع الراكدة، وستؤدي الي تغييرات كبيرة جدا في المنطقة،،

لقد غاب قسرا،، لكن بذرته لن تنقطع عن النماء،، والعطاء،،

عبد اللطيف مشبال
← الرجوع إلى جميع المقالات