الرأي المخالف للقاضي والمادة 16 من قانون التنظيم القضائي - المحور الثاني
قبل الانتقال الي هذا المحور، أودّ استكمال بعض العناصر والملاحظات التي أغفلت الإشارة اليها في المحور الاول منه، الذي تم نشره بجريدة آخر ساعة بتاريخ 30/8/2018، بالقول ان المادة 205 من قانون التقاضي ( enjuicimiento)المدني الاسباني تتضمن بدورها نفس مقتضي المادة 260 من قانون السلطة القضائية الاسبانية المحاجي به في المحور المذكور، بل وأزيد من هذا ، فان المادة 164 ( فقرة أولي) من دستور المملكة الاسبانية تنص علي “ان احكام المحكمة الدستورية يقع نشرها بالجريدة الرسمية للدولةرفقة الاّراء الخاصة عند وجودها”مما يعني إقرار الدستور المذكور حق القاضي الدستوري في الإفصاح عن رأيه المخالف عند الاقتضاء، مسايرة من المشرع الدستوري الاسباني لمبدأ علنية الوثيقة الدستورية.
و علي مستوي الدول العربية ، تتميز دولة اليمن بان تشريعهايتضمن مقتضي مشابه لنص المادة 16 من قانون التنظيم القضائي محل هذا التعليق، اذ ورد في المادة 88 من قانون الإجراءات المدنية اليمني ، وبالحرف، ما يلي:
” يجوز للقاضي اذا كان له راي مخالف لرأي أغلبية أعضاء الهيئة ،ان يدون رأيه المخالف مدعما بأسباب مستقلة مؤيدة لرأيه بمسودة الحكم، ويودعه ملف القضية، ولا يؤثر ذلك علي صحة الحكم ونفاذه، ولا يجوز اطلاع الخصوم علي الرأي المخالف باي حال من الاحوال”
فهذه المادة أتت اكثر دقة من حيث الصياغة ووضوح الغاية منها، لانها ، من جهة، ألزمت القاضي تدوين رأيه المخالف معللا بأسباب مؤيدة له، بينما اكتفي النص المغربي بوجوب تضمين راي القاضي المخالف في محضر سري ، دون اي تحديد للجهة الموكول اليها القيام بمثل هذه المهمة الجسيمة ، وهو ما قد يفسح المجال لعدة تأويلات وممارسات خاطئة تعصف بمرامي النص، مثلما سبق التذكير به سالفا، لعل من ضمنها تولي رئيس الهيئة نفسه تحرير المحضر، علي سبيل المثال، لا يعكس بالضرورة راي القاضي المخالف ، مما قد يؤدي بالاخير الي رفض التوقيع علي المحضر وافساح المجال لولوج عدة متاهات ،ومن جهة اخري، فان ذات المادة 16 المذكورة لم تحدد الفترة الزمنية التي يجب علي القاضي المخالف ان يعبر خلالها عن وجهة نظره المعارضة، باعتبار انه اذا كانت المادة 15 من قانون التنظيم القضائي تلزم حقا النطق بالأحكام محررة، فان الواقع يفيد ان هذا الامر لا يعدو ان يكون مجرد اضغاث احلام ، ويثبت عدم احترام مقتضي آمر مشابه منصوص عليه في المادة 17 من القانون المتعلق بالمحاكم التجارية، ويكفي للبرهنة علي ذاك الاستئناس بلوحة المواقع الالكترونية للمحاكم التجارية التي تكشف عن توفر نسخة جاهزة من الحكم بعد النطق به بأسابيع.
ومن ثم يحق التساؤل عن الظروف التي في خلالها يمكن للقاضي ان يعبر عن رأيه المخالف ما لم يتوفر علي نسخة من الحكم، بينما الوقائع تثبت ان الحكم ينطق به في العديد من الحالات قبل تحريره،مما قد يحول دون الاطلاع علي اسبابه من طرف القاضي المخالف سوي في فترة لاحقة،متي تثبت الممارسة الفعلية ان الاتفاق علي منطوق الحكم ليس هو في حد ذاته النهاية المأمولة من سير المداولة ، ما لم تتفق الأغلبية علي أسباب الحكم ، ومن ثم فان القاضي المذكور لن يتمكن من ممارسة ما خوله له مقتضي المادة 16 المذكورة سوي بعد التوفر علي نسخة نظامية من مسودة الحكم، الامر الذي كان من الاجدر معه مراعاة كل هذه المعطيات المؤثرة للغاية علي روح ألنص من المشرع .
ولذلك اعتقد ان النص اليمني المذكور كان موفقا حينما الزم القاضي المخالف ابداء أسباب رأيه المعارض مع تذييل بتوقيعه في ذات مسودة الحكم المفترض ان الهيئة الحاكمة اطلعت عليه خلال المداولة ووافقت عليه عندئذ بما تضمنه من أسباب تبرر بما هو مسوغ النتيجة المتفق عليها الواردة في منطوق الحكم سواء بالإجماع او بالاغلبية، وليس بما تضمنه من أسباب قد تضاف اليه بعد النطق به.
حول الرأي المخالف
بالرجوع الي أصل كلمة مخالف يتبين انها مشتقة من كلمة خالف ، خلافا ومخالفة ، بمعني عدم التوافق ، يقابلها بالفرنسية كلمة dissident او المنشق، ويعرفها المنجد القانوني بإدارة الفقيه Gérard Cornu بانه الرأي الشخصي للقاضي الذي يعبر عنه خلال المداولةبشان الحل المتوصل اليه لحل النزاع. وتجمع التعريفات للراي المخالف علي انه راي رسمي مكتوب من طرف القاضي حول حكم شارك في المداولة بشأنه ، الامر الذي يستوجب توفر هذا الصك بهذا الوصف والشرط حتي يتوفر احد أركان الرأي المخالف ، وليس مجرد محضر .
ينسب لمنتسكيو قولة شهيرة جاء فيها : les juges sont la bouche de la loi، اي ان القضاة هم افواه القانون ، او الناطقين باسمه،، لكن السؤال الذي يتبادر للذهن في هذا الصدد،،هل تلك الأفواه تتحدث بصوت واحد؟
يبدو ان انقسام الحلول التشريعية والآراء الفقهية بخصوص الرأي المخالف للقاضي لا يعدو ان يكون صدي للتساؤل الموما اليه.
فالبعض يري ، وعن حق ، ان الاحكام القضائية لا تصدر دوما بصوت واحد، ولا تعبر بالتالي عن راي واحد، وآية ذلك ان القانون افترض صدور الاحكام بالاغلبية ، مما يعني وجود أقلية اهتم الفكر القانوني بمعرفةحقوقها في التعبير عن رايها المعارض عند وجوده، وأيده بمبررات مختلفة، ودافع عنه في الأساس المذهب الانجلو سكسوني ،بينما اتجه راي آخر ينحاز اليه مذهب القانون المدني، تتزعمه فرنسا وإيطاليا وألمانيا ينحي عكس ذلك ،، الي إنكار الحق المذكور تحت شتي الاسباب وعلي راسها سرية المداولة
وقبل استعراض أوجه دفاع كل من الفريقين، التي عرفت شراسة عالية وشيقة، أودّ الإشارة الي ندرة الدراسات البحثية العربية التي عالجت الموضوع رغم أهميته البالغة علي مستوي ضمان حقوق الدفاع،وتزداد ندرة علي مستوي دراسات خاصة تتعلق بموقف التشريع المغربي، وهذا بخلاف حال دراسات اجنبية أعطت للموضوع ما يستحقه من عناء سبر أغواره بهدف واحد هو تحقيق عدالة حقيقية وناجعة . ولعله يكفي للبرهنة علي أهمية الموضوع ودقته، وعلاقة الإشكاليات التي يفرزها بميدان ممارسة المتقاضين لحقهم في التقاضي بكل شفافية،في نطاق احترام تام لحقوقهم في الدفاع ، ان محكمة النقض الفرنسية خصصت له ندوة خاصة سنة 2005 سلطت الضوء علي ابرز المشاكل التي تعترض تطبيق حق القاضي المخالف في ابداء وجهة نظره. ناهيك عن الاهتمام المتزايد بالموضوع من طرف كبار فقهاء القانون الدستوري الفرنسي من طراز باسكال جان ،ولويس فافورو ،او باحثين مبرزين من أمثال فرانسوا ريكو، او المصريين ادوار عيد، محمد كامل عبيد، او الفقيه الاسباني كاسكاخو كاسترو خوسي لويس او الشيلي سيرخيو بردوغو،،،
وقبل الوقوف علي معني الرأي المخالف في حدود ما يسمح هذا التعليق المتواضع علي ضوء نص المادة 16 من قانون التنظيم القضائي، وقبل استعراض الطروحات المعتمدة من الفريقين المشار إليهما، نشير الي ان الرأي المخالف الذي تشترك فيه العدالة المدنية والجنائية لان النص المذكور ورد في القانون المذكور الذي هو العمود الفقري لتنظيم كل محاكم السلطة القضائية ، لا يعني سوي ان صوتين هما ازيد من صوت واحد ، لكن اقل من صوت واحد، وهو ما يكرس احد قواعد الديموقراطية القائمة علي أساس اعتماد راي الاغلبيةاي 50%+1 وهي القاعدة المعمول بها في إصدار الاحكام.
للموضوع بقية
← الرجوع إلى جميع المقالات