قراءة أولية في قرار المحكمة الدستورية المتعلق بقانون التنظيم القضائي
( بخصوص العمل القضائي و عمل الإدارة القضائية )
تكشف قراءة متأنية لقرار المحكمة الدستورية الصادر مؤخرا المتعلق بقانون التنظيم القضائي عن ثراء حمولته فيما انتهى اليه من قضاء بعدم دستورية العديد من مواد هذا القانون.
و للتذكير فإن القرار صدر على إثر رسالة الإحالة وجهها السيد رئيس الحكومة ( مسجلة بأمانتها العامة بتاريخ 16/01/2019 ) التي طلب بمقتضاها من المحكمة الدستورية، استنادا على أحكام الفصل 132 من الدستور، النظر في مدى مطابقة القانون 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي للدستور.
لعله سيبدو غريبا لأول وهلة أن تقدم الحكومة الطلب المشار اليه مع أن أغلبيتها هي التي صادقت عليه، معية باقي الفرق النيابية ، و هو ما دفع العديد من المهتمين بالشأن القضائي إلى إثارة تساؤلات مشروعة حول سبب هذا الموقف ، ففسره البعض برغبة الحكومة في النأي عن كل مسؤولية ـ تاريخيا ـ ناتجة عن أن بعض مقتضيات القانون المذكور ترفضها الجمعيات المهنية للقضاة لمساسها باستقلالية السلطة القضائية ، من وجهة نظرها ، أو كما فسره البعض برغبة الحكومة في تحصين القانون من إمكانية الطعن بعدم دستوريته عملا بأحكام المادة 5 ( فقرة 8 ) من قانون الدفع بعدم دستورية قانون التي تشترط ألا يكون قد سبق البت بمطابقة المقتضى التشريعي محل الدفع للدستور ، ما لم تتغير الأسس التي تم بناء عليها البت المذكور .
غني عن البيان ، أنه لا يكفي الإعلان عن استقلال السلطة القضائية دون تمكينها من وسائل ناجعة لتكريس حقيقي لهذا الإعلان عبر توفير ضمانات كافية للقاضي لتكفل استقلاله في منأى عن كل سلطة أخرى ليظل رهين سلطة القانون ، و هو هدف منشود في علاقة القضاء بالسلطة التشريعية التي يجب عليها عدم المساس بالسلطة القضائية بإصدار تشريعات مخالفة لهذه القاعدة الدستورية.
لا حاجة للتذكير في هذا المقام أن قانون التنظيم القضائي يهتم بتحديد القواعد التي يقوم عليها نظام المحاكم و أنواعها و تشكيلها و الإجراءات الواجب اتباعها لتمكين المتقاضين من الوصول إلى حقوقهم ، فهو بالتالي جزء من القانون القضائي الخاص باعتباره قانون النشاط القضائي المرتبط بمهام القاضي في تحقيق العدالة و لا يمكن أن تتحقق هذه المهمة دون قيام تنظيم قضائي دقيق ينظم نشاط السلطة القضائية، و الإدارة التابعة لها المكلفة بمهام محددة في نطاق هذا النشاط ، و من ثم فإنه قانون يرنو بإمتياز إلى تحقيق مصلحة عامة و تعد قواعده من النظام العام مما يجعله ذي مكانة رفيعة انتبه اليها السيد وزير العدل حينما صرح أنه قانون مهم جدا في حجم قانون تنظيمي .
من اللافت بالرجوع إلى القانون المذكور أن المشرع وقع في خلط جوهري بين مفهوم العمل القضائي الذي تستقل به المحاكم و العمل الإداري الذي تقوم به الإدارة القضائية ممثلة في كتابة ضبط المحاكم، و نتيجة عدم وضوح رؤيا المشرع بهذا الشأن فقد انتهى النص التشريعي إلى السقوط في هفوات خطيرة استوجبت تدخل القاضي الدستوري بقوة لفرض احترام أحكام الدستور .
و لعله سيكون من الضروري للوقوف على مكمن الخلل الذي شاب صياغة النص التشريعي المذكور استحضار مدلول العمل القضائي من زاوية كونه منتوج عمل السلطة القضائية الذي ينهض على فكرة تولى القاضي مهام فض النزاع المعروض على القضاء لحسمه ، و بذلك يكفل حماية حقوق الأشخاص
و الجماعات وحرياتهم و أمنهم القضائي كما جاء في الفصل 117 من الدستور ، مسلحا بحجية الأمر المقضي عملا بالفصل 451 من ق .ل .ع و القرينة القانونية القاطعة عملا بالفصل 450 منه ، تماما مثلما هو عليه الأمر بالنسبة لأحكام المحكمين لكونها تفصل في نزاع ، الأمر الذي يمنع عليه الرجوع عن حكمه بخلاف الأعمال الولائية التي رغم أنها تصدر عن القاضي إلا أنها لا تنطبق عليها القاعدة المذكورة لانتفاء النزاع فيها ، فيجوز أن يتراجع عنها ، شريطة تغير الظروف التي أدت إلى صدور القرار الأول و عدم مساس القرار الثاني بحقوق الأفراد التي اكتسبوها نتيجة القرار الأول.
و بالإضافة إلى المعيار السابق ينبغي توفر معيار آخر هو عنصر الإجراءات القضائية التي من شأنها تكريس حماية حقوق المتقاضين ، و تتيح للقاضي أداء مهمته في إصدار الأحكام .
بينما أعمال الإدارة القضائية ، و هو مصطلح جديد يساير الإتجاهات التشريعية الحديثة ذات الصلة بتنظيم عمل كتابة ضبط المحاكم ابتدعته المادة 24 من القانون المذكور ، فإنه يتضمن معنى استقلالية في التدبير الإداري للمحاكم وهي أعمال مرتبطة بالنشاط القضائي الذي يتولاه القضاة ، تنهض بمهام تنظيمها و تفعيل حسن أدائها مما يضفي عليها سمة الشبه قضائية طالما أنها أنتجت أثرا إجرائيا مباشرا تمت كجزء من الخصومة التي يتولى القاضي الفصل فيها أو عمل موسوم بالطبيعة القضائية على حد تعبير قرار المحكمة الدستورية.
كما تنهض الإدارة القضائية في هذا النطاق بأعمال تحصيل الرسوم القضائية ، و قبض الودائع و تحرير الاستدعاءات كما جاء في القرار إلى غيرها من الاعمال اللصيقة بالنشاط القضائي .
و القرار محل التعليق استحضر مفاهيم العمل القضائي و عمل الإدارة القضائية كما يتجلى بالرجوع إلى تنصيصاته المثارة في الشق المتعلق بتلخيص دفوع جهة الإحالة ، (رئيس الحكومة ) الذي جاء فيه ما يلي :
” أن البرلمان أدخل تعديلا على صيغة النص المودع ، بحيث أصبحت المحاكم تمارس مهامها تحت اشراف المسؤولين القضائيين و الإداريين بها ، عوض صيغة تحت إشراف مسؤوليها ، مما يطرح التساؤل حول مدى مطابقة هذه الإضافة لأحكام الدستور ” ، و أن ” موظفو كتابة الضبط تحت سلطة و مراقبة الوزير المكلف بالعدل ، يمارسون مهامهم تحت إشراف المسؤولين القضائيين بالمحكمة ، عوض السلطة المباشرة لهؤلاء المسؤولين ، كما جاء في صيغة النص قبل تعديله ” ، و أن ” الكاتب العام للمحكمة … رئيس تسلسلي لموظفي كتابة الضبط ، وهو يباشر مهامه تحت سلطة و مراقبة الوزير المكلف بالعدل و تحت إشراف المسؤولين القضائيين للمحكمة ، علما بأن الصيغة المودعة … كانت تنص على أن الكاتب العام للمحكمة يباشر مهامه تحت سلطة كل من وزير العدل و السلطة المباشرة للمسؤولين القضائيين بالمحكمة .
و أن ما تثيره مذكرة الإحالة بخصوص فقرات المواد المعنية ، يهم في كليته موضوع الإدارة القضائية و تحديد الجهة التي تتبع لها ” .
و للرد على التساؤلات المثارة في المذكرة الحكومية سالفة الذكر استعانت المحكمة الدستورية بما هو معروف في الفقه الدستوري بتقنية المطابقة بين التشريع و الدستور حتى يكون الأول تجسيدا للنص الدستوري ، و استخلصت من جملة تساؤلات السيد رئيس الحكومة بخصوص فقرات المواد المعنية بها أنها تهم في كلتيه موضوع الإدارة القضائية و تحديد الجهة التي تتبع لها.
و لهذا الغرض استرجعت المحكمة الدستورية نصوص الدستور و القانونيين التنظيميين المتعلقين بالمجلس الأغلى للسلطة القضائية و النظام الأساسي للقضاة للقول أن الدستور جعل ، كقاعدة ، الإدارة موضوعة رهن تصرف الحكومة ، طبقا للفقرة الثانية من فصله 89.
و بناءا على تحليل شافي للأحكام المذكورة خلصت المحكمة إلى القول : ” من جهة أولى أن الإدارة القضائية، في جوانب عملها الإدارية و المالية ، مجال مشترك للتعاون و التنسيق بين السلطتين التنفيذية و القضائية ، و من جهة ثانية ، أن الإشراف ” المخول للمسؤولين القضائيين يهم التدبير و التسيير الإداري للمحاكم ” ، و بمفهوم المخالفة ، فإن ما ينفلت من المجال المذكور لا يندرج في “الإشراف ” ، و إنما في السلطة المباشرة للمسؤولين القضائيين ، و من جهة ثالثة ، أن التقارير التي يرفعها الوزير المكلف بالعدل إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، و تقييمه لعمل المسؤولين القضائيين ، تنحصر موضوعاتها في الميدانين الإداري و المالي ، و لا تتعداهما ، ومن جهة رابعة ، أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، براعي المؤهلات في الإدارة القضائية أثناء تعيين المسؤولين القضائيين أو تجديد تعيينهم”.
فإنطلاقا من هذا التحليل رسمت المحكمة الدستورية بدقة مجال تبعية الإدارة القضائية فيما تمارسه من اختصاصات إدارية ومالية ، للوزارة المكلفة بالعدل ، و هي تبعية مشروطة بضمان استقلال السلطة القضائية الممارسة من قبل قضاة الأحكام و قضاة النيابة العامة ، عبر حصر مداها في التدبير و التسيير الإداري و المالي للمحاكم.
وبناءا على هذا التحديد الدقيق لمجال اختصاص الإدارة القضائية خلصت المحكمة الدستورية إلى ترتيب النتائج الجوهرية التالية :
1 ـ إن قواعد النجاعة و الحكامة تقتضي إشراف المسؤولين القضائيين ، على المجالين الإداري و المالي للإدارة القضائية ، مما سيمكنهم من إيلاء عناية أكبر لمهامهم القضائية.
2 ـ تبعا لذلك ، فإن إسناد مباشرة المهام الإدارية و المالية للإدارة القضائية للكاتب العام للمحكمة ، الموضوع تحت سلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل و تحت إشراف المسؤولين القضائيين ، ليس فيه ما يمس باستقلالية السلطة القضائية .
3 ـ يترتب عن ذلك خلاصة هامة وهي ارتقاء كتابة الضبط إلى مصاف الإدارة القضائية حسب تصور واضعي نص القانون التنظيمي القضائي تتولى تدبير أعمال شبه قضائية و أخرى إدارية ( تدبير الوضعية الفردية لموظفي كتابة ضبط المحكمة ، المحافظة على بناية المحاكم و تجهيزها بالوسائل الكفيلة بأداء مهامها ، ضبط صناديق المحكمة … إلخ ) و بالبناء على ما سلف يكون الكاتب العام هو المسؤول الفعلي لموظفي كتابة الضبط يعمل تحت اشراف المسؤول القضائي و تحت سلطة مراقبة الوزير المكلف بالعدل .
وهي نتيجة ايجابية في اعتقادي لأنها تتيح للمسؤول القضائي وقتا يخصصه للقيام بمهامه القضائية و تأطير القضاة العاملين تحت اشرافه .
أن المحكمة الدستورية لقنت السلطة التشريعية درسا بليغا بتذكيرها أن الشأن القضائي ليس بالموضوع المشترك أو القابل للتنسيق بين السلطتين التنفيذية و القضائية بل هو اختصاص تنفرد به السلطة القضائية ،
و يمارسه قضاة الأحكام و قضاة النيابة العامة بكل استقلالية ، دون أي تدخل من سلطة دستورية أخرى ، احتراما لمبدأ استقلال السلطة القضائية المكرس دستوريا.
و يترتب عن ذلك ، أن ازدواجية المسؤولية بالمحاكم المنصوص عليها في المادة السابعة ( الفقرة الأولى ) من القانون ، تنحصر في المهام الإدارية و المالية للإدارة القضائية ، و لا تمتد لعملها القضائي الخاضع للسلطة المباشرة للمسؤولين القضائيين دون سواهم.
و إن الكاتب العام للمحكمة طبقا للمادة 23 ( الفقرتين الثالثة و الأخيرة ) من القانون المحال ، يعين من بين أطر كتابة الضبط و يمكنه أن يباشر مهام كتابة الضبط وهو بهذه الصفة أيضا موضوع تحت سلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل .
و إن المقتضيات المذكورة ستجعل من أحد كتابة الضبط ( أي الكاتب العام ) في أدائه لعمل ذي طبيعة قضائية موضوع تحت سلطة ومراقبة السلطة التنفيذية و ليس السلطة القضائية ، وهو ما يشكل مسا باستقلال السلطة القضائية و انتهاكا لمبدأ فصل السلط .
و حيث إنه بناء على ذلك ، يكون تخويل الكاتب العام الموضوع تحت سلطة و مراقبة الوزير المكلف بالعدل أداء مهام كتابة الضبط المندرجة في الشأن القضائي دون إخضاعه لسلطة ومراقبة المسؤول القضائي خلال مزاولة تلك المهتم مخالف للدستور.
كما أن الكاتب العام الذي يشارك بصفة تقريرية في أشغال مكتب المحكمة ، يساهم في اتخاذ كل القرارات التي تهم مشروع برنامج عمل المحكمة ، بما في ذلك ، تلك التي لا تكتسي طابعا إداريا أو ماليا ، كتأليف هيئات الحكم و توزيع القضايا و المهام على قضاة المحكمة و التعيينات المشار إليها أعلاه ، و التي تعد من الشؤون القضائية التي يجب أن يقتصر التداول بشأنها ، و اتخاذ القرار بخصوصها على المسؤولين القضائيين .
و حيث إنه ، بناء على ما سبق ، فإن تخويل صلاحيات تقريرية للكاتب العام ، الموضوع تحت سلطة و مراقبة الوزير المكلف بالعدل ، في أشغال مكتب المحكمة ذات الطبيعة القضائية ، يعد مخالفا لمبدإ فصل السلط و لاستقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية المقررين في الفصلين الأول و 107 من الدستور ، و يتعين بالتالي ، التصريح بعدم مطابقة المواد 27 ( الفقرة الأولى ) و 28 ( الفقرة الأولى ) و 93 للدستور.
لعل أهم خلاصة يمكن استنتاجها من قرار المحكمة الدستورية محل هذا التعليق ، أنه و إلى جانب ثراء حمولته ، تضمن دروسا بليغة موجهة للسلطة التشريعية بخصوص مفاهيم أساسية كاستقلال السلط التي يقوم عليها النظام الدستوري للمملكة ، و مبادئ الحكامة الجيدة ، كما أماط اللثام ، مرة أخرى، عن ضعف الأداء التشريعي ، و نقص في انتاج نصوص قانونية سليمة في بنائها و هيكلتها ، و سديدة في مرماها كوسيلة للحفاظ على نظام عام قانوني واضح المعالم يحترم قواعد المشروعية عبر احترام قاعدة سمو أحكام الدستور.
← الرجوع إلى جميع المقالات