مجــــزرة "نيوزيلانــــدا" و المانفستـــــو
يكشف العمل الإرهابي الشنيع الذي ذهب ضحيته عدد كبير من المسلمين و هم يؤدون واجبهم الديني في أحد مساجد نيوزيلاندا ، و بقوة ، عن مدى تنامي تيار يميني متطرف في الغرب يحرض على العنف و الحقد في مواجهة المسلمين مع ما يحمله من مخاطر تهدد السلم و مخاوف إثارة حروب داخلية و نشر ثقافة العدوان و رفض الآخر ، و هي ظاهرة إزدادت انتشارا في السنوات الأخيرة مع تفاقم الأزمات الاقتصادية في الغرب و بروز مقاولين قد يصح وصفهم بالفاشيين ، تجلت في بت خطابات عنصرية بإختلاق شتى المزاعم الكاذبة بدعوى أن المسلمين هم مجرد برابرة غزاة لبلاد مسيحية.
كل الدلائل والقرائن المستمدة ، سواء من أفكار السفاح منفذ العملية ، أو من طريقة ارتكاب الجريمة النكراء وإصراره على توثيقها ، تثبت أن العمل الإجرامي يكتسي خطورة بالغة و يهدف إلى ترويع المسلمين ونشر كراهية مقيتة ضدهم تحملهم إلى الرجوع إلى أوطانهم الأصلية.
لم يكن ليحصل الحادث لولا ازدهار منتوج الكراهية الذي تقوم بتصنيعه مؤسسات إعلامية و ثقافية مشبوهة مختصة تتحكم في الرأي العام ، و تقوم بزرع الأكاذيب ضد الفئات الاجتماعية المستهدفة أي المسلمين ، و بت و توزيع الأحقاد على أساس ديني و طائفي ، مستغلة كل الأحداث في هذا السبيل ، بما في ذلك أعمال إرهابية ارتكبتها فئات تنتمي إلى الإسلام السياسي المتطرف و ذهب ضحيتها مواطنون أبرياء في الغرب و حتى في دول إسلامية في تحريف لمقاصد الشريعة الإسلامية السمحاء .
و نذكر في هذا الصدد وعلى سبيل المثال ، أن شبكة ” نيوزكور ” بأستراليا تهيمن بمفردها على مجال الإعلام و تقدم للمواطن منتوجا يمينيا صرفا .
لقد استغل التيار اليميني المتطرف بشتى تنوعاته ظاهرة العولمة في كافة المجالات و على الخصوص الأنترنيت الذي تشغله الجماعات المتطرفة بما فيها الجماعات الإسلامية منها لنشر خطاباتها و بت أفكارها المسمومة ، فلم يعد هناك مكان بعيد عن تأثير الخطابات العدائية و نشر رسائل الكراهية الدينية التي هي أخطر أنواع الكراهية لما لها من آثار تدميرية وخيمة.
يبدو من تحليل مختلف الشعارات والخلفيات التي برر بها الإرهابي ارتكاب المجزرة، أن لها امتدادات في الماضي والحاضر، و تخفي تنظير اليمين الغربي لأطروحاته الاستعمارية ضد المسلمين.
و بالرجوع الى المانفستو المكون من 74 صفحة المحرر بيد السفاح المذكور الذي نشره صباح يوم ارتكاب الجريمة النكراء بعنوان ” الاستبدال الكبير ” أنه اقتبسه من عنوان كتاب كاتب فرنسي (رونو أجور) أصدره سنة 2011 ، مع العلم أن كاتب فرنسي آخر هو جون راسيل كان قد قام قبل ذلك بنشر رواية سنة 1973 ” معسكر القدسيين ” تنبأ فيها بإنهيار الحضارة الغربية بدعوى تنامي مهاجري العالم الثالث ، و هي كما لا يخفى ، تعد أحد دعائم عقيدة النازيين الجدد التي ألهمت سفاح ” نيوزيلندا ” مثلما يتجلى من محددات ” نظريته ” التي تحمل امتعاضا و تنديدا بسبب تكاثر أعداد هامة من المهاجرين غير الأوربيين ، و حلولهم مكان السكان الأصليين البيض المنقرضين ، حسب توهمه، بفعل معدلات خصوبتهم العالية و عبر عنه بكونه نوع من الاستعمار المضاد.
وهذا ما أشار إليه بوضوح السفاح بقوله ” إنها معدلات الولادة ” معبرا عن قلقه من تراجع نسب مواليد البيض، مما سيؤدي الى تحولهم ، حسب ذكره ، الى مجرد أقلية ، أي الأوربيون والمهاجرون الأوربيون، فجنح بتصوره المريض و العنصري الى ضرورة مواجهة المسلمين (الغزاة ) و إبادتهم ، بتعبيره ، متجاهلا أن هؤلاء البيض هم الذين أبادوا السكان الأصليين للعديد من الدول كالولايات المتحدة الأمريكية و استراليا.
و يعود سبب استهدافه العنصري للمسلمين لكونهم ، حسب تصوره ، ” مجموعة محتقرة من الغزاة و أن مهاجمتهم يحظى بدعم هائل ، فضلا عن أنهم أقوى المجموعات ولديهم معدل خصوبة عالية ، و يتوفرون على رغبة في الغزو ” و هو ما يتجلى أيضا من خلال الكلمات التي كتبها على أسلحة جريمته التي جاء فيها ” فيينا 1683 ” التي تعني هزيمة العثمانيين هناك ، “وثورة 732 ” في إشارة الى هزيمة العرب في “تور” جنوب فرنسا على يد شارل مارتيل و 1571 الذي هو تاريخ هزيمة العثمانيين في معركة بحرية قرب سواحل اليونان .
تزداد عنصرية خطاب السفاح استفحالا وتطرفا من خلال دعوته الى إخراج تركيا من الحلف الأطلسي، بل و إلى قتل الرئيس أردوغان بدعوى أنه قائد أوسع مجموعة إسلامية في أوروبا ، مفصحا بذلك عن حقد دفين تجاه هذه الدولة المسلمة لأنها تمكنت من تحقيق تقدم مشهود به رغم كل أنواع مضايقات الغرب الاستعماري ، و خص الأتراك بخطاب تهديدي بقوله ” سوف نأتي من أجل القسطنطينية ، سوف ندمر كل مسجد و مئذنة ، سوف تتحرر كنيسة القديسة صوفيا من المآذن ، و ستعود القسنطينية مليكة مسيحية ، من جديد ” الأمر الذي يثبت مدى تغلغل الفكر الصليبي في عقيدة المجرم.
كما دعا الى قتل عمدة لندن صادق خان الذي وصفه بأنه رمز لحرمان البريطانيين و لاستبدالهم عرقيا في الجزر البريطانية .
و لعل أهم الوقائع التي أثرت في عقيدة القاتل و دعته الى جريمته ، علاوة على ما ذكرته آنفا ، الى جانب مقتل الطفلة إيباكرلوند السويدية على يد إرهابي إسلامي بشاحنة في ستوكهولم في أبريل 2017 و كذا معاينته للتحويل الثقافي و العنصري الذي تشهده باريس ، حسب ادعائه ، استحضاره فشل مارين لوبيز التي يقول أنها لو ترأست فرنسا لكان اعتبر فوزها علامة على أن الحل السياسي ربما لازال ممكنا ! ، أما و أن ذلك لم يحصل فإن سقوطه المدوي في براثين خطاب الكراهية المليء بالحقد و تلفيق الأحداث دفعته إلى تكريس مادي لعقيدته بسلوكه العدواني الإجرامي في حق مسلمين أبرياء كانوا يمارسون فريضتهم في منأى عن كل ضغائن .
و لم ينسى الإرهابي المذكور التذكير باعتزاز كبير الرئيس ترامب لأنه يحارب المهاجرين و كذا الأمر بمؤسس اتحاد الفاشيين البريطاني أوزوالد موزلي ، بينما صب جم غضبه على السيدة مركيل لإستقبالها المهاجرين السوريين متجاهلا أن تدفقهم على الدول الأوروبية إنما هو انعكاس لما حصل في بلدهم حينما غضت الطرف هاته الدول عن تمويل الإرهابيين و ذهابهم إليها لتحطيم الدولة السورية خدمة لإسرائيل ، و لا يمكن أن ننسى في هذا الصدد أن الحزب اليميني ” الجبهة الوطنية ” يرتكز مذهبيا على كراهية المهاجرين و تحديدا المسلمين و يستمد أفكاره من أفكار رونو كامو المذكور ، كما لا يمكن أيضا إغفال أفكار عدد من الإعلاميين و المفكرين الذين يروجون الى مزاعم ” الخطر الإسلامي الداهم ” و هي أفكار تستغل تنامى الأزمة الاقتصادية المتفشية في الغرب و فرنسا خصوصا لإلقاء المسؤولية عن ذلك على هؤلاء المهاجرين و على رأسهم المسلمين الذي هم ضحايا مكر سياسات الاستغلال البشع لثرواتهم من الغرب ، بدليل ما تعرضت له أنظمة وطنية من مؤامرات استعمارية انتهت بتدميرها و استهدفت كل المنجزات التي حققتها ( العراق ، ليبيا ، سوريا ) و استبدالها بدمار شامل لم تسلم منه حتى آثارها في سبيل محو تاريخها الحضاري مثلما حصل في تدمر بسوريا التي تم تدمير أزيد من نصف بنيتها التحتية ، لنشر ” الفوضى الخلاقة ” بتعبير رائدة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس ، و ما ترتب عنه من هجرة الملايين من سكان هذه المناطق الى دول الغرب مرغمة للبحث عن سبيل العيش الذي حرمت منه في أوطانها بفضل مؤامرات الغرب الاستعماري و تواطئه مع مجموعات إرهابية لنشر الدمار في تلك الأوطان ، بهدف إقامة دولة الخرافة لإشاعة المزيد من التخلف و الجهل و عرقلة كل تقدم.
فالغرب استطاع عن طريق مراكزه البحثية التي زودته بكل المعلومات الممكنة عن الواقع الاجتماعي و الطائفي و السياسي للدول العربية و الإسلامية من استعمال هذه المعرفة التي هي سلطة بمفهوم ” فوكو ” للسيطرة على الشرق و فرض هيمنته عبر نشر إيديولوجية قاتلة و فجة ضد الإسلام و تعاليمه السمحاء مليئة بالمبالغة بالهول الإسلامي ، في الوقت الذي يستمر الغرب في التعامل بنفاق و بكيفية مخالفة مع نفس الإسلام عندما يتعلق الأمر بالحاكمين الأثرياء في الخليج العربي ، بإرضائهم ، كما تدل على ذلك ، على سبيل المثال ، كيفية تعامله مع جريمة قتل الصحفي الخاشقجي المليئة بكل أنواع التنصل من كشف الحقيقة أو من صمته المريب على الجرائم المرتكبة ضد الشعب اليمني.
لا يمكن في خاتمة هذه العجالة سوى معانقة رأي أدوار سعيد الذي قال ذات يوم و رحل :
“ان واحدة من خطوات التقدم العظيمة هي أن الثقافات مهجنة و تعددية و أن الثقافات و الحضارات متصلة ببعضها و معتمدة على بعضها الى حد تجاوز أي وصف مرسوم ببساطة لفراد أي منها ” و بالتالي فلا مندوحة هناك من التخلي عن استعمال الكراهية ضد الإسلام بإعتبارها وقود حقيقي لإرهاب يجد جذوره في إيديولوجيات التفوق العنصري، و من الاقتناع أن عالمنا متعدد الثقافات و الديانات، و أن الحضارة تستوجب مساهمة البشرية جمعاء .
و من ثم لا مناص هناك من ضرورة نشر ثقافة التعايش بكل تسامح بين الناس بغض النظر عن ديانتهم ، و الاعتراف بالآخر على أساس حرية العقيدة و إشاعة وعي ديني مؤسس على قيم التسامح و إحترام خصوصيات المسلم و غير المسلم في ظل سيادة القانون ، مع ضرورة تجريم التكفير باعتباره أحد مظاهر نشر الكراهية و نبذ الآخر بل و قتله .
← الرجوع إلى جميع المقالات