محاولة فك طلاسم المادة 17 من ق.م.م الجديد

نشر بتاريخ

استهلال:

لا يختلف اثنان على ان قانون المسطرة المدنية باعتباره القانون الإجرائي الذي يهيمن على النشاط القضائي للمحاكم يهدف الى إقرار الحقوق المكرسة بالقانون الموضوعي، فيعتبر من أهم القوانين ، سيما ، من جهة ، انه الشريعة العامة باعتباره الجامع للمبادئ الأساسية التي تحكم كل القضاء ، فيما لم يرد نص خاص بشأنه ، و من جهة أخرى ، لان قواعده، باعتباره في المقام الأول قانون شكلي بصفة عامة ، عبر إسدال حماية قانونية رفيعة مجسمة في قواعد إجرائية واضحة موحدة لجميع المواطنين قصد نيل حقوقهم في نطاق حق التقاضي المضمون دستوريا للدفاع عن حقوقهم ، فهو إذن من الحقوق العامة الأساسية المعتبرة من النظام العام بهدف الحصول على احكام قضائية لتقرير مراكزهم القانونية التي تترب عنها نتائج هامة و مؤثرة ، سنتعرض لها لاحقا ، في حدود ما قد يسمح به المقام ، فلا يمكن بالتالي الحد منها او تقييدها سوى في حدود ضيقة و لأسباب مشروعة بمقتضى قانون.

و بالبناء عليه ، فإن من شأن استعمال الحق في التقاضي ، و مثلما هو معلوم ، بمراعاة القواعد المحددة في القانون الاجرائي ترتيب ما يسمى بحجية الحكم المقضي بوجهيها الإيجابي و السلبي الذي يرتقي به عمل القاضي الى مرتبة اليقين القانوني ، طالما ان ضمانات صدور الاحكام المنصوص عليها في القانون الاجرائي تجعلها ، في غالب الأحيان ، صحيحة و عادلة ، فمنحها القانون الموضوعي حكم القرينة القانونية القاطعة ( الفصل 450 من ق.ل.ع ) و أتاح المشرع لذوي الشأن في الخصومة سلوك طرق الطعن في مواجهة كل قوة قد تمس بحقوقهم لتقويض تلك القرينة فيعتبر الحكم الصادر في هذا الطعن حكما نهائيا.

و غني عن البيان ان الحكم ، بعد صدوره ، لا يمكن المساس به من المحكمة مصدرته لأنه اضحى قطعيا ، و قد تتطور درجة متانته ، ان صح القول ، ليكتسب درجة الحكم الانتهائي بعد فوات الاجل القانوني للطعن فيه ، او قوة الامر المقضي به اذا لم يعد قابلا للطعن فيه بالطرق العادية .

و حتى يصل الحكم الى مرتبة اليقين فإن المشرع منحه بداية حجية الأمر المقضي التي لا تكتسبها سوى الاحكام الصادرة في موضوع الخصومة رغم إمكانية سلوك طرق الطعن في مواجهته و تنشأ عن مجرد صدوره و لو كان قابلا للطعن فيه عبر طرق الطعن العادية او غير العادية.

و يجمع الفقه على ان فكرة حجية الامر المقضي به التي يكتسبها الحكم لتجعله عنوانا للحقيقة مسلحا بالقرينة القانونية القاطعة التي يعترف بها الفصل 450 من ق.ل.ع المذكورة ( فقرة أخيرة ) و تعفى من تقررت لمصلحته من كل اثبات ، و لا يقبل أي اثبات يخالف القرينة القانونية ( الفصل 453 منه ) تعني أساسا عدم إمكانية المساس بما انتهى اليه الحكم في منطوقه من اعتراف بمركز قانوني محدد لأحد الخصوم.

و إذا كانت المحاجاة بتلك الحجية تعني الفاعلية الملزمة او المقيدة للحكم فان اعمالها يستوجب عدم تجاوز الحدود الشخصية و الموضوعية للأمر المقضي.

و تأسيسا على ما سلف ، فإن علم القانون الاجرائي انتهى الى القول إن حجية الامر المقضي به التي يرتبها الحكم و التي يعرفها الفقه بانها ” القوة الملزمة للحكم في الإجراءات المستقبلية حتى لا يقع المساس بالمنفعة التي يعترف بها او ينكرها القاضي ” تحول دون بحث أوجه البطلان فيها لان المساس بما انتهى اليه الحكم رهين فقط بسلوك إجراءات الطعن مثلما حددها القانون.

و أساس القاعدة يكمن في نظام ما يسمى سقوط المراكز الإجرائية بما معناه فقدان او نقصان مكنة سلوك اجراء معين سبق ان حدده القانون ، فحالة عدم جواز المساس بالحكم النهائي ليست سوى نتيجة بديهية للسقوط الآنف الذكر التي يترتب عنها اكتساب الحكم قوة الأمر المقضي به و تحصينه رغبة من المشرع في تأمين الاستقرار القانوني و استتباب الأمن القضائي حفاظا على النظام العام ، و قد ازدادت رسوخا و مكانة ، تلك القوة ، بصدور الدستور الجديد للمملكة الذي نص في الفصل 126 منه على ان ” الاحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع ” ، و هو ما اعادت التذكير به المادة 15 ( فقرة أخيرة ) من قانون التنظيم القضائي بالقول ” تعتبر الاحكام النهائية و كذا الاحكام القابلة للتنفيذ ، الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع”.

فمحصلة ما سبق بيانه يعني ان المادة 17 من ق.م.م تمس بالقاعدة الدستورية المذكورة لأنها تقوض قوة الاحكام النهائية الصادرة عن القضاء و تجعل المستفيد منها مهددا في حقوقه المكرسة بمقتضى حكم نهائي في كل حين اذا ما اعتبرت النيابة العامة ان الحكم ملوث بعيب مخالفة النظام العام ، و تقدمت بدعوى بطلانه امام المحكمة المختصة ، الامر الذي يعني ، من جهة أخرى ، و بالملموس ، ان المشرع خالف قاعدة تراتبية القواعد القانونية في خرق سافر آخر للفصل 6 من الدستور ( الفقرة الأخيرة ) التي تنص على انه ” تعتبر دستورية القواعد القانونية ، و تراتبيتها ، و وجوب نشرها ، مبادئ ملزمة”.

عدم إمكانية الطعن ببطلان حكم قضائي:

من القواعد الراسخة في علم القانون الاجرائي عدم جواز تقديم دعوى قضائية من اجل استصدار حكم ببطلان حكم محدد ، باعتبار ، من جهة ، ان النظام القانوني للدعوى القضائية يختلف عن نظام الطعن في الاحكام الذي يعتبر الوسيلة الوحيدة لإلغائها ، و من جهة أخرى ، نظرا للطبيعة الخاصة التي يكتسبها الحكم القضائي الذي لا يمكن فصله عن الخصومة التي صدر بشأنها، مهما كانت المرحلة التي قطعتها الخصومة.

و حتى لو صدر الحكم ، على سبيل الافتراض ، باطلا او ماسا بالعدالة ، ما لم يكن منعدما ، فانه يظل منتجا لآثاره القانونية ، ما لم يقع الطعن في مواجهته بإحدى طرق الطعن المقررة قانونا ، و مرد ذلك ان المشرع المغربي ، و منذ عقود طويلة و أسوة بالتشريعات الحديثة الوازنة ، فضل استقرار المركز القانوني للأطراف بدل إشاعة الاضطراب ، و انعدام الامن القضائي، و المساس بالنظام العام ، حالة إقرار ما أتت به المادة 17 من ق.م.م من تمكين النيابة العامة ولوج الطعن ببطلان حكم معين بدعوى مساسه بالنظام العام الذي حار الفقه و القضاء في تحديد ملامحه او التعريف به و بالأحرى النيابة العامة ، و حتى دون بيان نوع هذا النظام العام المتكأ عليه في دعوى هادفة للحكم ببطلان حكم معين لأنه غير مستقل عن الخصومة التي صدر فيها و بالتالي فان الطعن فيه يلتحم بهذه الخصومة ، فيكون مرحلة منها ، و من هنا قاعدة انه لا دعاوى بطلان ضد الاحكام.

و مفاد هذه القاعدة وجوب التمسك بعيوب الحكم عن طريق من ممارسة طرق الطعن التي حددها القانون كمرحلة من الخصومة التي صدر فيها الحكم . فاذا لم يكن الحكم يقبل الطعن بأي طريق من الطرق التي نظمها القانون او استنفدت ، فانه لا يجوز المساس به عن طريق رفع دعوى بطلب بطلانه سواء كان الحكم باطلا ام غير عادل.

ختاما:

يبدو ان الملاذ الأمثل للمواطنين ، امام تناقض عدد من مواد القوانين ، و عدم دقتها أو وضوح احكامها ، و حتى أحيانا تضاربها، هو ولوج القضاء الإداري لاستصدار حكم بإقرار مسؤولية الدولة عن بعض الأوجه المعيبة الناتجة عن ممارسة الاعمال التشريعية الصادرة عن البرلمان لتمكينهم من جبر الضرر اللاحق بهم من جراء ذلك ، اما استنادا الى ثبوت الخطأ في التشريع أو خرقه قواعد دستورية كما هو عليه الحال بالنسبة لما ورد في المادة 17 محل التعليق او حتى استنادا الى نظرية المخاطر او على خرق مبدء المساواة امام الأعباء العامة المكرسة بمقتضى الفصل 39 من الدستور.

آملا ، في خاتمة المطاف ، أن تعيد الغرفة الثانية النظر في احكام المادة 17 المذكورة ، و حذفها مثلما قررته لجنة العدل و التشريع ، غير ان الجميع فوجئ بان الحكومة بعثت برسالة الى رئيس مجلس النواب بعنوان ” تعديل لهذه المادة”، رغم انها لم تعد موجودة ، و هو ما سبق للزميل عبد الكبير طبيح ان اوضحه ، عن صواب ، في تعليقه المؤرخ في 25/07/2024.

عبد اللطيف مشبال
← الرجوع إلى جميع المقالات