مرسوم لتأطير ممارسة التحكيم اعتياديا من محكمين مسجلين في قائمة معدة من وزارة العدل
وافق مجلس الحكومة بتاريخ 18 من الشهر الجاري على مشروع المرسوم عدد 2.23.1119 الذي اعده و قدمه السيد وزير العدل يحدد بمقتضاه كيفية مسك قائمة المحكمين و شروط التسجيل فيها و التشطيب منها.
هذا المرسوم يثير عدة تساءلات حول مسيرة التحكيم ببلادنا ، عموما ، و طبيعة تأهيل مهمة المحكم، و مدى توافقها مع السياسات العمومية للدولة الرامية الى تحفيز و جذب الاستثمار ، من جهة ، و القضاء على تراكم الملفات بالمحاكم ، من جهة أخرى ، و تأمين استعمال الطرق البديلة لتسوية النزاعات على أوسع نطاق ممكن ، وفق التعليمات الملكية السامية التي ألحت ” على ضرورة تطوير الطرق القضائية البديلة كالوساطة و التحكيم و الصلح ” كما جاء في الخطاب الملكي التوجيهي ليوم 20/08/2009 .
و نظرا لأهمية المرسوم و تداعياته المرتقبة على تطور قضاء التحكيم الفتي في بلادنا ، سواء الداخلي منه او الدولي ، الذي تحكمه قاعدة منع قضاء الدولة من نظر المنازعات الخاصة الدولية حتى اكتسح التحكيم الدولي هذا الميدان ، و كذا الامر بالنسبة للمنازعات الخاضعة للتحكيم الداخلي . لذلك ، ارتأيت الاسهام بهذا التعليق المتواضع في محاولة لسبر اغوار المرسوم المشار اليه و الكشف عن ارتداداته المحتملة على مجال التحكيم.
بداية ، يجدر التذكير ان التحكيم ، و كما هو معلوم ، هو الأصل في القضاء ، و يعتبر نظاما متكاملا و مستقلا لفض النزاعات سواء أكانت داخلية او نزاعات دولية بين الأطراف ، يتولاه احد من الاغيار المعتبر محكما المؤهل بقوة الإرادة العقدية وحدها ممثلة في اتفاقية التحكيم.
ان التحليل الموضوعي للتحكيم كظاهرة إنسانية متميزة ذات تأصيل تاريخي قديم عاصر تطورات في غاية الأهمية تسمح بالقول حاليا بوجود قضائيين يؤديان الوظيفة القضائية ، و هما قضاء الدولة ، من جهة، و قضاء التحكيم ، من جهة أخرى .
تتجه التشريعات الحديثة الى منح المحكم تأهيلا كاملا حتى يتولى القيام بمهمته برحابة صدر و استقلالية دون تبعية للقانون و للقضاء الوطنيين الذي تقلصت حدود تدخله ليواكب قضاء التحكيم كمساند له في مرحلة قبلية او عبر تدخله عند النظر في الطعن بالبطلان في مواجهة المقرر التحكيمي او عبر مسطرة اكسائه الصيغة التنفيذية له ، في مرحلة لاحقة .
و هكذا ارتقى التحكيم بخطوات ثابتة الى أعلى المراتب بعد ان ارتدى لباسا متحررا من تحكم الدولة مما اسعفه في تحقيق عدالة خاصة موفقة تتبوء مركز الصدارة كقاضي طبيعي و مفضل في المنازعات التجارية الدولية عموما ، و عقود الاستثمار على وجه الخصوص ، فساهم بكيفية باهرة في جذب الاستثمار و خلق ديناميكية النمو الاقتصادي المنشود أدت الى خلق رأس مال ، كما أدى تشغيله الى تحقيق دخل و تنمية مستدامة ساهمت في تعزيز السلم الاجتماعي.
و لتحقيق هذه الغاية ، فضلا عن الرغبة في تقليص تراكم القضايا امام المحاكم ، و هي معضلة اثار الانتباه اليها في عدة مناسبات السيد الرئيس الأول لمحكمة النقض ، الى غير ذلك من الغايات كسرعة البت في النزاعات ، و التكتم الذي يحيط سير مسطرة التحكيم ، ساهمت الى حد كبير في جعل قضاء التحكيم آلية هامة لحل النزاعات ، و ليس كلها . لذلك انخرطت الدولة في تشجيع الوسائل البديلة لحل النزاعات و على رأسها التحكيم الوساطة الاتفاقية ، كما يدل على ذلك القانون الاطار بمثابة ميثاق الاستثمارات الذي تضمن صراحة إمكانية فض المنازعات الناشئة عن العقود الدولية للاستثمار عن طريق التحكيم الدولي .
لذلك تم سن القانون الجديد رقم 95.17 المتعلق بالتحكيم و الوساطة الاتفاقية الذي نسخ جميع الاحكام المخالفة له و لا سيما احكام القانون السابق رقم 08.05 و برهن بذلك المشرع على رغبته في مجاراة الاتجاهات الحديثة للتحكيم التي نحت الى صياغة قواعد قضاء التحكيم في شكل قانون مستقل عن قوانين الإجراءات المدنية مثلما كان عليه الحال في القانون المذكور الملغى ، و كرس القانون الجديد اهم المبادئ المكرسة من طرف التشريعات الحديثة المنظمة للتحكيم الدولي و من طرف فقه و قضاء التحكيم .
و غني عن التذكير بما نحى اليه الفقه الراجح من تأكيد على ان المحكم يتولى القيام بمهمة محددة في الاتفاق ، فلا يدين بالولاء الى نظام قانوني وطني معين لأنه مستقل لا يستظل بسيادة وطنية محددة ينتمي اليها . و لذلك قضت محكمة العدل للمجموعة الأوروبية ” ان الهيئة التحكيمية لا تمثل محكمة من جهاز قضاء الدولة مما لا يمكن الحكم على الدولة بمسؤوليتها عن الأحكام التحكيمية التي لا تصنف ضمن احكام السلطة القضائية الخاضعة لقانون التنظيم القضائي للدولة الذي يعتبر مرفقا عاما للدولة يعمل لضمان سيادة العدل وفق المبادئ الاجتماعية و الاقتصادية و الفكرية للمجتمع “.
و نظرا لان المحكم يتولى القيام بمجرد مهمة عامة باعتباره عونا للقضاء فانه لا بد ان تتوفر فيه مؤهلات معينة ليحظى بثقة الأطراف و كذا ثقة القانون باعتبار ان العمل العام يكتسي صبغة رسمية.
فمن اجله نصت المادة 11 من القانون الجديد للتحكيم على انه ” لا يمكن اسناد مهمة المحكم الا لشخص ذاتي كامل الاهلية ، يتوفر على الحد الأدنى من الخبرة و الكفاءة العلمية ، تؤهله لممارسة مهمة التحكيم ، و لم يسبق ان صدر ضده حكم حائز لقوة الشيء المقضي به بالإدانة من اجل ارتكاب أفعال تخل بالشرف او صفات الاستقامة او الآداب العامة ، او كان موضوع عقوبة تأديبية انتهت بعزله من وظيفة رسمية ، او صدرت في حقه احدى العقوبات المالية المنصوص عليها في القسم السابع من الكتاب الخامس من القانون رقم 15.95 المتعلق بمدونة التجارة ، او بالحرمان من أهلية ممارسة التجارة او حق من حقوقه المدنية ”، و هي مقتضيات معمول بها في العديد من التشريعات كالقانون الفرنسي ( م.1451/1 ) و المصري ( مواد 15/6) و التونسي ( المادة 10 ) ، و كلها مقتضيات تكرس بالملموس مدلول شرط الثقة القانونية سالف الذكر المعتبر من النظام العام ، مما يحق معه للمحكمة اثارته تلقائيا سواء بمناسبة دعوى بطلان حكم التحكيم او امام قاضي الصيغة التنفيذية.
و اذا كان المتفق عليه في فقه التحكيم ان المحكم يتولى مهمة عامة كقضاء الدولة الا انه لا يندرج ضمن طائفة أعوان الأخير كالخبراء ، و لذلك لا يخضع للشروط المطبقة على هؤلاء ، و من ثم يحق ان يكون المحكم من غير ذي الجنسية المغربية بخلاف القاضي بدليل ان المادة 51 من القانون المنظم للتحكيم و الوساطة الاتفاقية تشير الى وجوب ذكر جنسية المحكمين الذين اصدروا الحكم التحكيمي كما لا يخضع المحكم لنظام تأديبي حتى ولو من المراكز التحكيمية ، فعلى سبيل المثال ، لا يتضمن نظام غرفة التحكيم التجارية الدولة بباريس اي نص يجيز لها اصدار عقوبة تأديبية ضد محكم مسجل بلوائحها ، بخلاف المرسوم محل التعليق الذي اباح ، و بكيفية مذهلة ، التشطيب على محكم مقيد بلائحة المحكمين ، مثلما سيتم بيانه لاحقا.
حول المرسوم رقم 2.23.119:
يتمتع المحكم في أداء مهمته باستقلالية تامة عن قضاء الدولة ، و هو ما يتبين بالرجوع الى المادة 58 من قانون التحكيم التي تجعل الحكم التحكيمي غير قابل لأي طعن و ما يستشف من نزعته الى التضييق على أسباب الطعن ببطلانه.
كما انه اذا كان أساس سلطة القاضي في اصدار حكمه نابع عن تسميته لمزاولة هذه الوظيفة بقرار اداري فان مصدر سلطة المحكم نابعة من اتفاقية التحكيم وحدها التي يستند عليها في القيام بمهمته كقاضي خاص ، يتميز عن قاضي الدولة بمسالة جوهرية تبرز مدى استقلاليته مثلما تفصح عنه المادة 32 من القانون الجديد للتحكيم التي خولته البت ، و لو تلقائيا ، في صحة او حدود اختصاصاته و في صحة اتفاق التحكيم و لئن ظل خاضعا لتقييم قضاء الدولة فيما نحى اليه في هذا الشأن.
و ازيد من هذا ، فان القانون المذكور اوجب بمقتضى المادة 18 منه على قاض الدولة في حالة التمسك امامه بوجود اتفاقية التحكيم ان يصرح بعدم قبول الدعوى ( الفقرة 2 من المادة 18 ).
و نفس الامر اذا كان النزاع لم يطرح بعد على الهيئة التحكيمية ، فان على المحكمة المختصة ان تصرح بعدم قبول الدعوى ( الفقرة 2 من نفس المادة ) .
و يظهر جليا من استعمال مشرع القانون الحالي في المادة المذكورة لصيغة الوجوب ، من جهة ، و حذفه الجملة التي كانت تنص عليها المادة 327/2 من ق.م.م الملغاة التي كانت تنظم التحكيم و الوساطة الاتفاقية على ” ما لم يكن بطلان اتفاق التحكيم واضحا ”، من جهة أخرى ، مدى رغبة المشرع الواضحة في تعزيز تمتيع المحكم بولاية مطلقة و استقلاليته .
فمن غير المفهوم ، في هذه الظروف ، و في مناخ هذا الدعم الواضح لاستقلالية المحكم المكرس تشريعيا بالقانون الحالي للتحكيم ان يتضمن ، مع ذلك ، مقتضيات تفرغ تلك الاستقلالية من مضمونها ، مثلما جاء في المادة 12 التي تنص على ما يلي : ” مع مراعاة احكام المادة 13 بعده ، يجب على الأشخاص الذاتيين الذين يقومون اعتياديا او في اطار المهنة بمهام المحكم ، اما بصورة منفردة او ضمن شخص اعتباري، ان يكونوا مسجلين ضمن قائمة المحكمين تحدد كيفيات مسك القائمة و شروط التسجيل فيها و التشطيب منها بنص تنظيمي على الا يسجل فيها الا ذوو الخبرة و الكفاءة العلمية “.
ان المرسوم محل التعليق استند على المادة 12 أعلاه و اتخذها مرجعية له ، و اشتمل على 13 مادة.
و بخصوص التأصيل التاريخي للمادة 12 المذكورة ، يجدر التذكير ان مسودة القانون السابق للتحكيم و الوساطة الاتفاقية رقم 08.05 الذي وضعته لجنة برآسة المرحوم محمد المرنيسي ، و تشرف كاتب هذا التعليق المتواضع بعضويتها ، كرس المفاهيم الصحيحة للتحكيم كقضاء من نوع خاص يستمد سلطته من إرادة الأطراف وفق المبادئ التي كرستها القوانين الحديثة للتحكيم ، غير ان مشروع القانون خضع الى تعديلات من ضمنها ما ورد في الفصل 321 من ق.م.م التي نصت على ما يلي : ” يجب على الأشخاص الطبيعيين الذين يقومون اعتياديا أو في إطار المهنة بمهام المحكم إما بصورة منفردة أو في حظيرة شخص معنوي يعتبر التحكيم أحد أغراضه الاجتماعية، أن يصرحوا بذلك إلى الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف الواقع في دائرة نفوذها محل إقامة الأشخاص الطبيعيين المذكورين أو المقر الاجتماعي للشخص المعنوي.
يسلم الوكيل العام وصلا بالتصريح ويقيد المعنيين بالأمر في قائمة المحكمين لدى محكمة الاستئناف المعنية وذلك بعد دراسة وضعيتهم “.
و نظرا لما اكتنف تطبيق احكام المادة المذكورة من صعوبات فقد اضطر وزير العدل المرحوم عبد الواحد الراضي الى اصدار دورية جاء فيها على الخصوص ” لم يهدف المشرع من وراء التصريح المذكور ، جعل القيام بمهمة التحكيم حكرا على فئة المحكمين المقيدين بالقائمة المشار اليها ، كما لم يقصد تقييد حرية الأطراف بإلزامهم باختيار المحكمين من هذه القائمة ، او حصر اختيارهم في دائرة الأشخاص الذين يقومون بمهمة التحكيم على وجه الاعتياد او في اطار المهنة ، بل توخى فقط خلف آلية لتسهيل مهمة رئيس المحكمة حين يلجأ اليه في اطار مقتضيات الفصلين 324-4 و 327-5 فصد تعيين او إتمام تشكيل هيئة التحكيم ، بحيث يسهل عليه الرجوع لقائمة المحكمين المشار اليها بدل الاحتكام لمعلوماته الشخصية .
و فيما عدا ذلك ، فان المشرع - و على غرار ما يجري به العمل في مختلف التشريعات المقارنة المنظمة للتحكيم – كرس مبدأ حرية الأطراف في اختيار المحكم ، كما حرص على الإبقاء على التحكيم باعتباره مهمة – و ليس مهنة – يسندها الأطراف ، بملء ارادتهم و في حدود الضوابط التي وضعها القانون ، لمن ارتضوه من المحكمين سواء كانوا مقيدين ام غير مقيدين بالقائمة “.
يبدو بالرجوع الى المادة 12 سالفة الذكر من قانون التحكيم الحالي وجود نوع من التوجس اتجاه المحكم من طرف واضعي هذا القانون حينما الزم كل شخص ذاتي يزاول ، بصفة اعتيادية ، او في اطار المهنة بمهام المحكم سواء كانوا منفردين او ضمن شخص اعتباري ان يكونوا مسجلين ضمن قائمة المحكمين.
و هو توجس اصاب في مقتل مبدء استقلالية التحكيم لأن هذا المقتضى يفرض نوعا من الوصاية ، تحد من حرية التحكيم و استقلاليته ، بل و ادهى من ذلك حول المرسوم محل التعليق مؤسسة التحكيم الى ما يشبه مهنة لا يمكن مزاولتها سوى من شخص مقيد بلائحة المحكمين الممسوكة من طرف وزارة العدل تتوفر فيه شروط معينة و هي الكفاءة العلمية بما لا تقل عن شهادة الاجازة ، مثلما جاء في نص المادة 2 من المرسوم الذي أمعن في المساس بمبدء استقلالية المحكم حينما أضاف هذا الشرط الجديد الذي لم تقل به المادة 12 من القانون الحالي للتحكيم و الوساطة الاتفاقية فتطاولت بذلك السلطة التنفيذية على عمل المشرع في خرق واضح لأحكام الدستور الذي ألزم في الفصل السادس منه احترام مبدء تراتبية القواعد القانونية و تلزم بالتالي سلطات الدولة عدم اصدار قواعد قانونية او اتخاذ قرارات تنفيذية مخالفة لقواعد القانون.
مع ان المعول عليه في هذا المجال هو سلطان إرادة المحتكمين المجسمة في اتفاقية التحكيم التي تنصرف الى تعيين محكم ولولا يملك كفاءة او مؤهلات علمية و غير متوفر على ادنى شهادة ، اذ يكفي توفره على الحد الأدنى من المتطلبات و هو الالمام بالقراءة و الكتابة سيما و ان المادة 30 ( الفقرة 2) تلزم على المحكم الذي قبل مهمته ان يفصح كتابة عند قبولها عن أي ظروف من شانها اثارة شكوك حول حياده و استقلاله ؛ كما ان الفقرة السابقة تنص على ان قبول المهمة تتم كتابة بالتوقيع على اتفاق التحكيم او بتحرير وثيقة الشروع في المهمة ، بما معناه وجوب إلمام المحكم بالقراءة و الكتابة.
كما ان المادة 3 من المرسوم تضمنت معيارا تحكميا ينم عن توجه للتضييق على حرية المحكم و استقلاليته اذ تنص على ان ” من شروط قبول الطلب المترشح للقيام بمهمة التحكيم بصفة اعتيادية او في اطار المهنة التي ينتمي اليها ان يدلي بنسخ من الاحكام التحكيمية التي أصدرها او شارك في إصدارها” الامر الذي يعني وجوب ان يكون المترشح قد زاول فعلا مهام التحكيم بصفة اعتيادية، مادام المطلوب منه الادلاء بنسخ بصيغة الجمع للأحكام سالفة الذكر، بينما يظل مدلول ” المشاركة في الإصدار” غامضا و مطاطا ، مما يجعل إمكانية تأويل تلك المشاركة نوعا من الرجم في الغيب ، بينما اغفل المرسوم ان المحكم ممنوع عليه الادلاء بحكم تحكيمي أصدره عملا بالمادة 54 من القانون المذكور ما لم يوافق اطراف التحكيم ، مما سيجعله ، في حالة رغبته التقييد في لائحة المحكمين ، مضطرا الى استجدائهم للحصول على تلك الموافقة !.
و ليس هذا فحسب ، بل ان المرسوم تضمن احداث لجنة يعهد اليها بدارسة طلبات التسجيل في قائمة المحكمين و تقديم اقتراحات بشأنها الى السلطة الحكومية المكلفة بالعدل ( المادة 4 من المرسوم ).
و تضيف المادة 5 ان اللجنة تجري مقابلات شفوية ( هكذا ! ) مع المترشحين لتقييم خبرتهم و كفاءتهم في مجال التحكيم ، الامر الذي يفهم منه ان أعضاء اللجنة من ذوي الالمام الواسع في التحكيم واختبروا اغواره المعقدة بما فيها اغوار التحكيم الدولي العابر للقارات ، و الحال انه لا يبدو ان ثلاث من أعضاء اللجنة و هم مدير الشؤون المدنية و المهن القانونية و القضائية و ممثل عن رئاسة النيابة العامة و ممثل عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية انهم مارسوا التحكيم او لربما حتى قضاء الحكم ، مما لا يتصور معه ان لهم المام بمبادئ التحكيم ، و كم كان حريا ان يتم تعيين قضاة من محكمة النقض ممن لهم دراية بالتحكيم بحكم وظيفتهم ، و اضافت المادة سالفة الذكر الى هؤلاء محكمين اثنين ( يتمتعان بالخبرة و الكفاءة في مجال التحكيم ) يعينهما وزير العدل لمدة اربع سنوات ، دون ان يوضح المرسوم مصدر معرفة الوزير بخبرة هذين المحكمين او كفائتهما طالما ان الاحكام التحكيمية التي يفترض ان تكون المرشد له في هذا الامر غير قابلة للنشر ، مثلما سلف ذكره اعلاه.
و من المظاهر البارزة لمساس المرسوم المذكور باستقلالية التحكيم و حريته ، فقد نحى واضعوه الى جعل التحكيم مهنة ، و لئن لم يتضمن النص هذا المصطلح ، و آية ذلك ان المادة 2 أوردت شروط التسجيل في قائمة المحكمين سالفة الذكر، وأوكل المرسوم لوزير العدل ، و بناء على اقتراح اللجنة المذكورة التشطيب على المحكم المسجل بقائمة المحكمين في حالات الوفاة او بطلب منه ، او اذا لم يعد مستوفيا لشرط من الشروط المنصوص عليها في القانون رقم 95.17 المتعلق بالتحكيم و الوساطة الاتفاقية ، مما حاصله تخويل اللجنة سلطة التشطيب على محكم من قائمة المحكمين متى تبين لها انه لم يعد مستوفيا لإحدى الشروط سالفة الذكر، فيكون من الواضح تماما ان السلطة الحكومية اغتصبت السلطة حينما جعلت التحكيم مهنة ، و اباحت لها حق التشطيب المذكور ، خارج نطاق النص التشريعي .
ان الحق في و لوج القضاء سواء كان قضاء الدولة او قضاء التحكيم يندرج ضمن الحقوق الأساسية للمواطن تكفله الدولة في صيغة القانون على نحو يحقق التوازن بين المصالح المتعارضة للخصوم و ينظم وسائل و إجراءات مباشرة هذا الحق بمراعاة خصوصيات التحكيم التي تجعله كل النظم القانونية بيد الخصوم بعيدا عن تدخل سلطات الدولة فيما عدا النزر اليسير فتلتزم ان تكون المحكمة مشكلة على نحو صحيح و لا يمكن الوصول الى هذه الغاية اذا انتهكت إرادة احد الأطراف في تعيين محكمه لتشكيل محكمة تحكيمية تتولى البت في النزاع بمقتضى اتفاق تحكيم لمجرد ان المحكم الذي رغب في تعيينه ذلك الطرف قد سبق له ان بت في نزاع تحكيمي سابق سواء شمل اطراف أخرى ام لا ، بدعوى ان المحكم المذكور يتوفر فيه وصف الاعتياد ، و من ثم فان انتهاك قانون التحكيم لهذا الحق يجعل المادة 11 منه مقتضى غير دستوري ، حسب اعتقادنا.
و يثور تساؤل مشروع عن مآل مسطرة التحكيم اذا ما انطبقت الصورة أعلاه على حالة التحكيم الدولي بمدلول المادة 71 من القانون الحالي للتحكيم و الوساطة الاتفاقية الذي يخضع في إجراءات تنفيذه و الاعتراف به لاتفاقية نيويورك ، التي لا تشترط تقييد المحكم في قائمة معينة فيكون شرطا مخالفا للاتفاقية المذكورة الأولى في التطبيق على نص القانون الداخلي ، مما كان من واجب واضعي هذا القانون و المرسوم التطبيقي له اخذ كل هذه الأوضاع بعين الاعتبار ، و تجنب بلدنا مخاطر تصنيفه ضمن الدول المقيدة لحرية التحكيم مع ما لهذا التصنيف من تبعات اقتصادية واسعة الأثر تتعارض بالمطلق و بكيفية غير مبررة أو مفهومة مع السياسات العامة لحكومتنا الموقرة الموصوفة بانها ليبرالية جدا فيما عدا التحكيم؟ !.
← الرجوع إلى جميع المقالات