مشروع قانون اسباني يفرض سلوك الوساطة الاجبارية قبل التقاضي
ازدادت أهمية الوساطة كوسيلة مجدية لحل النزاعات بطرق ودية خارج نطاق قضاء الدولة الأصيل ، بل و تكاد الآن أن تضاهى طريق التحكيم ، بعد ان اثبتت فعاليتها في الوصول الى الغاية المنشودة خاصة بعد ان تم اعتماد اتفاقية سنغافورة من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 20/12/2018 التي أعدتها لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي ” اليونسترال ” المتعلقة بإنفاذ اتفاقات التسوية الودية الناتجة عن الوساطة التي صادق عليها البرلمان المغربي مؤخرا بتاريخ 18/01/2022 باعتبارها اطارا موفقا لترتيب الأثر القانوني المتعين الناتج عن اتفاقيات الوساطة فيما يمكن ان يضاهى الأثر الذي توفره ” اتفاقية نيويورك لسنة 1958 ” المتعلقة بالاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية.
و هكذا اضحى في الإمكان جعل التسوية التي قد يتوصل اليها اطراف اتفاق الوساطة ملزمة و واجبة التنفيذ تبعا لإجراءات بسيطة فعززت بالتالي إمكانية تحقيق عدالة سريعة و فعالة نظرا للمزايا العديدة التي تتيحها الوساطة انطلاقا من سلطان إرادة الأطراف في اختيار النهج الملائم لمصالحهم في تقرير كيفية تسوية النزاع القائم بينهم عن طريق وسيط وهو طرف اجنبي يتولى تسهيل المفاوضات بين الخصوم و مساعدتهم على الوصول الى حل دون تدخل من طرفه و تحرير اتفاق وساطة يجسم ارادتهم بحرية تامة.
و نظرا لعلو شأن الوساطة كأداة لفض النزاعات فقد فرضتها مؤخرا بعض الأنظمة القانونية كنظام اجباري واجب السلوك من الخصوم قبل عرض نزاعاتهم على القضاء خاصة بالنسبة للقضايا التجارية ، بغرض التخفيف من عبء التقاضي امام المحاكم ، و هو العبء الذي يعاني منه نظامنا القضائي ايضا نظرا لتفاقم المخلف من القضايا حتى اصبح يتجاوز كل قدرات القضاة في الاحكام ، كما جاء في كلمة الرئيس الأول لمحكمة النقض بمناسبة افتتاح السنة القضائية 2024 التي دعا من خلالها الحكومة و البرلمان الى حل هذه الإشكالية و إصلاح هذا الوضع.
و من الأنظمة القانونية التي فرضت الوساطة الاجبارية ، ولو على شكل جزئي ، نذكر مصر على مستوى الدول العربية من خلال قانون الافلاس رقم 11 لسنة 2018 المنشور بالجريدة الرسمية في 19/02/2018 الذي يعرفها في المادة 19 منه بانها ” وسيلة ودية لتسوية المنازعات التجارية عن طريق وسيط ( قاضي الإفلاس ) يتولى تقريب وجهات النظر بين الأطراف بمناسبة علاقة عقدية او غير عقدية ، و يقترح عليهم الحلول الملائمة لها “.
حققت هذه الوسيلة نجاحا ملموسا ، نظرا لمميزاتها و طابعها السري الذي يحافظ على سرية المعلومات ذات الصلة بالوساطة ، وادت الى نتائج إيجابية تضمن المحافظة على العلاقات التجارية بين الأطراف .
و تعتبر هذه الوساطة ، في واقع الامر ، ذات طابع قضائي لأنها تتم عبر تدخل قاضي الإفلاس كوسيط ، و لئن كانت وسيلة ودية لتسوية النزاع ، و يحرر عند الوصول الى هذه النتيجة ، اتفاق تسوية يتضمن بيانات محددة و تفصيلية و عندئذ يصدر القاضي المذكور قرار بالمصادقة على التسوية و يكتسي الاتفاق قوة سند تنفيذي ، بينما يرفض الطلب اذا لم يتم الاتفاق.
و تنفرد إيطاليا على المستوى العالمي بنموذجها الريادي المتميز في صياغة وساطة اجبارية اصيلة وليدة فشل النظام القضائي الإيطالي في معالجة الكم الهائل من القضايا المعروضة عليه بالسرعة المتطلبة ، مما فاقم من عدد متخلف القضايا، و ازداد عدد المواطنين المتظلمين من تعطيل العدالة الذين رفعوا عدة دعاوى امام محكمة العدل الأوروبية للحصول على احكام بأداء تعويضات مهمة ضد الدولة الإيطالية لتهاونها في تامين عدالة سريعة و مثمرة لهم باعتبارها من حقوق الانسان الجوهرية، الامر الذي انعكس كذلك على مناخ الاستثمار الذي عرف انكماشا ملحوظا اثر بدوره في نسبة النمو الاقتصادي مما دفع بالبرلمان و الحكومة الى التفكير في ابداع حلول لمواجهة هذه الأوضاع المتردية حتى تستعيد إيطاليا مكانتها المرموقة داخل الاتحاد الأوروبي و العالم.
و بالبناء عليه أصدرت الحكومة الإيطالية القانون رقم 28 سنة 2010 الذي الزم سلوك مسطرة الوساطة الاجبارية قبل عرض اية خصومة على القضاء ، غير ان هذا القانون شابه عدة ثغرات كإتمام عملية الوساطة حتى في حالة عدم مشاركة احد الطرفين ، و انعدام الخبرة الكافية لدى الوسيط ، مما أدى الى تعاظم الأصوات المنتقدة للقانون و الى ردود فعل سلبية لدى عموم المعنيين بأحكام القانون . و انتهى الامر بإصدار المحكمة الدستورية حكما بتاريخ 30/07/2012 قضت بعدم دستورية عدد من مواد القانون سالف الذكر التي تمنع ولوج القضاء مباشرة من المتقاضين قبل عرض نزاعهم على مسطرة الوساطة الاجبارية ، الامر الذي انعكس على عدد القضايا التي عرضت على الوساطة.
و مع ذلك ظلت الحكومة الإيطالية متشبثة بنظام الوساطة في انماطها الاتفاقية و الإلزامية و اعدت قانونا جديدا في 09/08/2013 اكد على مبدأ اجبارية الوساطة بعد ادخال عدة إصلاحات على صيغته القديمة ، عبر تقليص مدة الوساطة الى ثلاثة اشهر دون اخلال بمعيار الكفاءة ، كما ادخل تعديلا هاما تم بمقتضاه تمكين المحامين من المشاركة في إجراءات الوساطة ، مثلما يتبين بالرجوع الى احكام المادتين 5 و 8 من القانون المذكور اللتين نصتا على ” وجوب مساعدة المحامين للأطراف ” ، فضلا عن تمتيع الاتفاق الذي قد يصل اليه الأطراف بالصيغة التنفيذية في حالة توقيعه من جانب محاميهم ، ناهيك على انه خول للمحامين الحق في لعب دور الوسيط .
و هكذا ، تمكن القانون الإيطالي الجديد من تجاوز سلبيات القانون السابق ، حتى اضحى بحق نموذجا يحتذى به لدرجة ان البرلمان الأوروبي اعترف بنجاحه بمقتضى قرار متخذ بتاريخ 12/09/2017 جاء في احدى فقراته ” ان إيطاليا تعرف لجوء الأطراف الى الوساطة بمعدل ستة اضعاف ما تعرفه أوروبا “.
و أشادت الدراسات و الابحاث التي عالجت الموضوع بالنجاح المشهود به للتجربة الإيطالية في ميدان الوساطة الاجبارية ، و اكدت دراسة حديثة لأحد الوسطاء الايطاليين اللامعين ( السيد جيوباني ماطيوشي ) على ذلك مسترشدا بأرقام دالة على هذا النجاح تخص المدة الزمنية من 2011 الى 2019 التي عرفت :
- انخفاض عدد القضايا المدنية التي عرضت على المحاكم بنسبة أربعة في المئة ( 4 % ) سنويا نتيجة الازمة الاقتصادية و بفضل الوساطة الاجبارية.
- ارتفاع مهم لعدد مساطر الوساطة بنسبة 18 % سنويا.
- ارتفاع مهم أيضا لعدد القضايا التي تم تسويتها عن طريق الوساطة بزيادة 14 % سنويا.
يبدو ان اسبانيا تتجه ، بدورها ، في نفس منحى المشرعين الإيطالي و الارجنتيني ، من خلال مصادقة الحكومة الإسبانية في اجتماعها المنعقد يوم 12 من الشهر الجاري على مشروع قانون الوساطة الاجبارية المدمج في مشروع قانون تنظيمي يرمي الى إعادة تنظيم إدارة العدل كما تضمن مقتضيات لحل النزاعات بالوسائل البديلة ممثلة في الوساطة الاجبارية لفض النزاعات المدنية و التجارية قبل اللجوء الى القضاء في حالة فشل الوساطة فيما عدا القضايا التي يكون ولوج القضاء ضروريا دون ان يعني ذلك مساسا بحقوق الأطراف و ضماناتهم القانونية .
تأمل الحكومة الاسبانية عن طريق إقرار هذا القانون ، و كما جاء في مذكرته التقديمية ، الى التخفيف من عبء ارتفاع الكم الهائل من القضايا المدنية و التجارية المعروضة على المحاكم الاسبانية التي بلغت سنة 2022 الى 2.809.693 قضية عبر إيجاد حل ودي عن طريق الوساطة لما يبلغ حوالي 800.000 قضية ، كما تضمن المشروع ، إضافة الى الوساطة الاجبارية ، على ثلاثة أدوات أخرى لحل النزاعات ممثلة في الآليات التالية :
- الصلح الخاص ، و هي الحالة التي يفترض فيها تولى احد الأشخاص ممن يتوفر على معارف فنية او قانونية عن موضوع النزاع القيام بمساعدة الأطراف على حل النزاع الواقع بينهم.
- تقديم عرض ذي طابع مكتوم من احد الأطراف على الطرف الآخر الذي سيضحى ملزما لهما عند قبوله من هذا الاخير.
- حالة تقديم خبير مستقل لرأيه الفني بخصوص النزاع يكون منطلقا لإيجاد اتفاق بين الاطراف.
تنهض فلسفة المشروع على قاعدة الحوار بين الأطراف بسلوكهم مسطرة الوساطة الاجبارية كأداة لحل النزاع القائم بينهم و بذلك تنضم اسبانيا الى قائمة الدول التي اعتنقت نفس النهج كوسيلة لحل النزاعات ، نذكر منها على وجه الخصوص الارجنتين و إيطاليا ، اذ تعتبر الأخيرة ، و مثلما سبق التنويه به أعلاه ، بحق رائدة على المستوى العالمي في اعتماد الوساطة الاجبارية بمقتضى قانون 09/08/2013 المشار اليه أعلاه ، و تتساوى مع الوساطة القضائية التي يتولى قاضي القيام بها .
كما تضمن مشروع القانون الاسباني عددا من الإصلاحات المسطرية بهدف تبسيط سير الإجراءات امام المحاكم و من ضمنها تمكين القاضي من اصدار احكام شفوية في عدد من المساطر المختصرة بمناسبة البت في قضايا معينة سواء كانت إدارية او مدنية.
اعتمد مشروع القانون الاسباني المذكور التوجيهات التي اقرها البرلمان الأوروبي بتاريخ 21/05/2008 في مذكرته المتعلقة بنظام الوساطة في القضايا المدنية و التجارية ، فحسب ، باعتبار ان معاهدة تأسيس الاتحاد الأوروبي تحصر سلطات برلمانه في مجال هذا التشريع تحديدا ، بهدف تشجيع دول الاتحاد الأوروبي على تبني ” الوساطة ” كآلية لحل المنازعات و اوصت هذه الدول اتخاذ كل الإجراءات المناسبة لمنح المحاكم سلطة اقتراح الوساطة كوسيلة بديلة لحل المنازعات في القضايا المذكورة دون ان يعني ذلك منع الأطراف من اللجوء الى القضاء كوسيلة نهائية لحل النزاع.
و تهدف المذكرة المشار اليها الى محاولة خلق قواعد قانونية تنظم الموضوع و على راسها محاولة تنظيم مسائل شائكة كالالتزام بالسرية و نفاذ عقود تتضمن حل النزاع عن طريق الوساطة.
يجدر في هذا المقام الإشارة الى التخوف الذي أعربت عنه بعض أوساط قطاع مهنة المحاماة بإسبانيا من احتمال ازاحتهم عن النيابة في قضايا مدنية و تجارية في حالة بدء سريان العمل بالمشروع عندما يصبح قانونا نافذا ، و هو تخوف لا يبدو مقنعا ، حسب رأي العديد من المحامين الذين يستشهدون بحصيلة تجربة مماثلة عاشتها الارجنتين التي عرفت هذا النوع من الحلول البديلة منذ ما يقرب من ثلاث عقود حينما فرض القانون الصادر بتاريخ 27/10/1995 سلوك الوساطة الاجبارية على الأطراف لحل نزاعهم قبل عرضه على المحاكم التي تمكنت على اثره من التغلب على المتخلف الهائل من القضايا المدنية ، و كذا الامر بالنسبة لإيطاليا منذ سنة 2013 دون ان تتأثر مصالح المحامون الذين خول لهم القانون ممارسة مهنة الوسيط.
هذا ، و قد تضمنت المذكرة التقديمية سالفة الذكر أسبابا مقنعة نذكر منها الأسباب البليغة التي جاء فيها على وجه الخصوص ” يكون من الواجب قبل ولوج معبد العدالة المرور بمعبد محاولة التوفيق عبر قنوات حوار مثمر بين اطراف النزاع سواء مباشرة ، او عن طريق طرف ثالث محايد ، بما مؤداه الحد من الصراع الاجتماعي ، و التخفيف من تراكم القضايا بالمحاكم وصولا لإيجاد حلول مناسبة لأغلب النزاعات المدنية و التجارية خدمة للعدالة عن طريق الوساطة التي يجوز اعتبارها افضل الوسائل لحل النزاعات بطريقة مرضية و في نفس الآن تؤدي الى الرفع من جودة العدالة عبر ولوج الطرق البديلة المتاحة في المهن القانونية تأكيدا للدور التفاوضي الذي يضمنه قانون مهنة المحاماة و غيرها من مهنيي قطاع العدالة و خصوصا بمراعاة أحكام قانون أخلاقيات مهنة المحاماة الاسباني الذي يجعل من السعي الى التسوية بين طرفي النزاع أولوية قصوى و كذا الامر بالنسبة لما جاء في القانون الصادر بتاريخ 02/03/2021 المنظم لمهنة المحاماة الاسبانية الذي يعتبر ان مهنة المحاماة ترنو الى تقديم المشورة و تأمين الدفاع عن الحقوق و المصالح العامة و الخاصة بالاستعانة بالعلوم و التقنيات القانونية في انسجام مع المحافظة على الحقوق و الحريات الأساسية “.
و على سبيل الختم:
كرس القانون المغربي الجديد للتحكيم و الوساطة الاتفاقية رقم 95.17 ، نفس مضامين القانون السابق رقم 08.05 فظل اسير الوساطة الاتفاقية دون باقي الوساطات و خاصة القضائية و الاجبارية حتى ترتقي الوساطة الى الدور المأمول باعتبارهما من ضمن الوسائل البديلة لحل المنازعات التي برهنت على نجاح بين لدرجة ان البعض من الشراح اعتبرها آلية مثلي لتسوية المنازعات ، سيما التجارية منها ، لأسباب متعددة لعل من ابرزها المشاكل التي اخذ يعرفها التحكيم سيما ما يتعلق بالتحكيم الاستثماري بسبب ما يشتكي منه بعض اطراف النزاع المعروضة على هذا التحكيم من هيمنة الطرف القوي.
و لعل احد مظاهر نجاح الوساطة كطريق لحل المنازعات هو الزيادة المتنامية في استعمالها في هذا السبيل باعتبار ان الأطراف ينظرون الى الوساطة أداة تحقق لهم جميعا مكاسب كبيرة دون رابح او خاسر.
و نتيجة لهذا النجاح المشهود به سعى مشروع القانون الاسباني محل التعليق الى فرض الوساطة الاجبارية كمسلك سابق على التقاضي بهدف محاولة إيجاد حل للنزاع فتتساوى بالتالي مع حالة الوساطة القضائية التي يكون فيها الوسيط قاضيا و ليس مصالحا كما هو الحال بالنسبة للدور الذي يتولاه القاضي المغربي في ظل مدونة الاسرة.
و لذلك اعتقد انه من المناسب تعديل القانون رقم 95.17 حتى لا يظل اسير الوساطة الاتفاقية و تمكين المحاكم بالتالي، و على قدر المستطاع من القضاء على المتخلف الهائل من القضايا المعروضة عليها.
← الرجوع إلى جميع المقالات