موقع القانون الجديد للتنظيم القضائي
استنادا للاختصاص المخول للسلطة التشريعية بمقتضي احكام الدستور ، وهي السلطة التي نادي أرسطو باستقلالها عن السلطتين القضائية والتنفيذية، فقد وافق البرلمان مؤخرا علي قانون التنظيم القضائي عملا باحكام الفصل 71 من الدستور.
وإذا كانت السلطة التشريعية تتولي أساسا سلطة التشريع عملا بصريح الفصل 70 من الدستور، بما في ذلك سن القوانين المتعلقة بالحق في التقاضي، وتنظيم وضعية القضاة، والتنظيم القضائي، وهو ما قد يشي بقيام مسؤوليتها في حدود معينة عن الحفاظ علي استقلال السلطة القضائية، الا ان هذا لا يعني عدم مسؤوليتها عن ضمان هذا الاستقلال، مما يجب معه عليها عدم التدخل في عمل السلطة القضائية، كان تسمح لنفسها مناقشة نزاع مطروح علي القضاء، او مدي صواب حكم معين، او إصدار قانو ن يلغي قوة الشييئ المقضي به، او قاعدة وجوب تعليل الاحكام التي ارتقت الي مصاف القاعدة الدستورية، او تشكيل لجان تقصي الحقائق في قضايا مطروحة علي القضاء، التي يمنعها صريح مقتضي الفصل 67 من الدستور.
من المعلوم ان قواعد قانون التنظيم القضائي تعتني بتنظيم انواع المحاكم وتشكيلها وتراتبيتها باعتبارها جزء من محاكم السلطة القضائيةالتي يمارس مهامها المجلس الاعلي للسلطة القضائية بصفة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويختص بالسهر علي تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة وفق ما هو منصوص عليه في المادة 65 من القانون رقم 00.13الذي تنص المادة 2 منه ان السلطة القضائية تقع ممارستها من طرف القضاة المزاولين فعليا مهامهم القضائية بالمحاكم التي يشملها التنظيم القضائي للمملكة ، مما يعني ان الباقي منهم الغير مزاولين مهامهم بالمحاكم لا يمكن اعتبارهم يمارسون السلطة القضائية.
وهكذا يجوز القول انه بالموازاة مع العمل التشريعي او الاداري، يوجد عمل قضائي تتولاه محاكم السلطة القضائية، يتمثل في الحكم الذي يصدر من جهة قضائية يقضي بالفصل في نزاع قائم بين طرفين معروض عليها، او يأمر باتخاذتدابير وقتية،،،فيتميز هكذا بكونه لا يتضمن في اي جزء منه علي عنصر اداري او تشريعي ،باعتبار راي أرسطو الذي لا زالت له قوة نافذة،القائل ان المعيار الموضوعي للعمل القضائي هو وجود نزاع بين طرفين، اما المعيار الشكلي فيتجلى في وجوب تدخل طرف ثالث يحسم العدالة، وهو القاضي القادر علي تحقيق العدالة عبر تطبيق القانون،اي ماسك للميزان.
لقد تخطت البشرية مرحلة العدالة البدائية الخاصة، وتولت الدولة الحديثة مهام حفظ الأمن العام وإقامة العدل الذي يعد من اهم وظائفها، ولهذه الغاية احدثت المحاكم التي تشعبت اختصاصاتهاببلدنا في العقود الاخيرة، مثلمانصت عليه المادة الخامسة من قانون التنظيم القضائ التي كرست وضعية المحاكم المختصة.
وبمقتضي احكام الدستور فان القاضي يتولي حماية حقوق الأفراد والجماعات وحرياتهم وامنهم القضائي وتطبيق القانون وفق ما هو منصوص عليه في الفصل 117منه، عبر إصدار الاحكام.
ويبدو جليا ان الهدف من تدخل الدولة لتنظيم مرفق العدل وسد حاجياته، واقرار قانون التنظيم القضائي ، هو سعيها للمحافظة علي السلم الاجتماعي والنظام العام. ومن جهة اخري، تستشف توجهات النظام السياسي من خلال التمعن في خيارات القانون المذكور.
ولعله من نافلة القول ان الدولة ملزمة بالحفاظ علي الأمن ، وإقامة العدل ، والقاضي المكلف دستوريا بالمهام سالفة الذكر ، ملزم بدوره بإصدار حكم في كل نازلة معروضة عليه تحت طائلة امكانية متابعته بجريمة إنكار العدالة.
علي ان العدالة قد تتحقق ايضا عن طريق قضاء خاص لا يندرج ضمن محاكم التنظيم القضائئ ،اي قضاء التحكيم الذي قد يلجأ اليه الأطراف عبر اتفاقهم لفض النزاعات القائمة بينهم،او تلك التي قد تحدث، فيما عدا ما هو ممنوع قانونا، وهو قضاءلا علاقة له بقضاء الدولة علي الرغم من التعاون القائم بينهما في شخص قضاء داعم،، تزداد دعامته لقضاء التحكيم ، كما يبدو جليا من الاطلاع علي الاجتهادات القضائية والتشريعات الأجنبية،الا ان سلطة المحكم لا تمتد للتنفيذ، لان سلطته المنبثقة عن إرادة الأطراف لا يمكنها تمديد سلطته لتشمل الاجبار علي تنفيذ حكمه الخاضع لقضاء الدولة..
ومع وضوح الأهداف المعلنة من قانون التنظيم القضائي باعتباره الاداة التي تنظم محاكم السلطة القضائية وتحدد درجاتهاوعددها،، ، ومع ان الفقه الراجح يحمل رؤية واحدة حول مفاهيم هذا القانون، الا انه اختلف بخصوص تحديد موقعه في البناء القانوني،،الي ان استقر علي اعتباره جزء من القانون القضائي الخاص وعلي استعمال هذا الاصطلاح،، بدل اصطلاح قانو ن الخصومة المدنية لان التنظيم القضائي لا يقتصر مجاله علي الخصومة.
وفِي هذا السياق يذكر بيرو وصوليس في مؤلفهما ( القانون القضائي الخاص- ج1- طبعة 1961 - ص 13) ان اصطلاح “المسطرة المدنية” التقليدي، يعد معيبا لانها ضيقة للغاية، وبالرجوع الي الأصل الايتمولوجي المأخوذ من الكلمة اللاتينية procédure التي تعني التقدم، فان المسطرة لا تعني سوي السير الواجب اتباعه للوصول بالدعوي الي نتائج محمودة: فهدفها تحديد القواعدالواجب مراعاتها من الأطراف امام المحاكم ، والشكليا ت التي يجب عليهم معية القضاة ، ورجالات القانون ، الخضوع اليها للوصول الي الحكم وتنفيذه.
لكن المشكل يكمن في ان الوصول الي الحقوق ليس مشكلا مسطريا فحسب، بل أوسع من ذلك، اذ يهم ايضا جميع المسائل ذات الصِّلة بتنظيم المحاكم المكلفة بالبت في الدعاوي وتحديد سلطاتها، اي بالاختصاص المخول لكل واحدة منها.
وينتهي الفقيهين الي الانضمام الي راي الفقيه موريل الذي استبدل المصطلح التقليدي ” المسطرة المدنية” بمصطلح اكثر دقة واستيعابا، وهو”القانون القضائي”حسب تعبيرهما.
ولهذه الاسباب يبدو من المناسب اعتبار ان قانون التنظيم القضائيي كفرع من القانون القضائي الخاص، باعتبار محدداته سالفة الذكر،كما يشمل هذا الاخير قواعد قانون المسطرة المدنيةالتي تعني، مثلما هو معلوم، بتحديد الإجراءات الواجب سلوكها من المتقاضين امام المحاكم وصدور الاحكام ، بل وحتي طرق تنفيذها، مع ان القاضي يرفع يده عن النزاع بإصداره حكمه، وذلك علي اعتبارأن اللجوء الي التنفيذ القضائي يكون في حالة رفض المحكوم عليه تنفيذ الحكم الصادر ضده ورد المال المغتصب الي المحكوم له،مما تتوفر معه حالة مخالفة القانون ،فيندرج لزوما في اختصاص القاضي.
ثم يشمل ايضا القواعد الناظمة للاختصا ص القضائي المتناثرة في عدد من النصوص.
وعلاوة علي ما سلف ذكره، هناك خلاف آخر بشأن مركز القانو ن القضائي الخاص تجاه القانون العام او الخاص،الا ان الرأي الراجح ينحي الي اعتباره مركزا وسطا بينهما بسبب تعقيد مجالات كل واحد منهماوتشابكهما، للتمازج الحاصل بين قواعد القانون المذكور التي تنتمي الي فروع القانونين ( تنظيم الاختصاص، خلق المحاكم، من القانون العام) و( الإجراءات الواجب سلوكها لحماية الحقوق،، من القانون الخاص)
وبديهي ان آثارا بالغة الأهمية تختلف باختلاف تموضع القانون القضائي الخاص، وعلي راسها تنامي وتوسع الدور المنوط بالقاضي في إدارة الخصومة في حالة اعتبار القانون المذكور جزءا من القانون العام،، لكن ماذا سيكون دور القاضي اذا تم اعتبار هذا القانون مركزا وسطا،،وانتمي الي فروع القانون المختلطة،،؟
← الرجوع إلى جميع المقالات